الجلفة تحلّق… الصقارة إرثٌ لا يُقهر

السياسي- الجزائر

من فضاء السهوب اللامتناهية في الجلفة، من أولاد نايل حيث يلتقي صمت الصحراء مع أصداء التاريخ، ومن تحت برنوس بالٍ وحصان نحيل وسرجٍ مرقّع، يولد صوت الصقارة كأنّه صرخة حياة في وجه النسيان، طائرٌ حرّ، إنسانٌ صامد، إرثٌ خالد وهوية لا تزول. هناك، في قلب الجزائر التي لم تهدأ روحها أمام عواصف الغزاة، عاشت الصقارة كفنّ مقدس، كقصيدة تُنشد في هواء الصباح، كسرٍّ يعيد للسماء معناها، وكمعنى للحريّة التي لا تُقهر. فقد وصف إميل ماسكيراي هذا التراث في مذكراته بين المعاناة والبهاء، بين الخجل والاعتداد، بين عشيةٍ قديمة ومغامرة صقرٍ في فضاء لا نهاية له، وبين إنسانٍ يسأل السماء أن تعيده قطرةً من حرية لا تنطفئ.

لكن الحرية هنا لم تكن مجرد شاعرية، بل كانت عنصراً وجودياً في حياة القبائل. كانت الصقارة فعل تحدٍّ مع العدم، مع شمسٍ تحرق الجلد وتذيب الحجارة، ومع صحراء تُعلّم أن القيمة لا تُقاس بما نملك بل بما يبقى في الروح. من أجل ذلك صار الصقر رفيق الإنسان في الجلفة، شاهداً على الصبر، رمزاً للقوة، ومعلماً للحكمة. الصقارة هناك لم تكن تسلية للنخبة فحسب، بل كانت أيضاً مدرسة للأجيال، وطقساً من طقوس الهوية، ومقاماً من مقامات الشرف.

وثيقة محفوظة في أرشيف الثقافة الأوروبية تؤكد أن الصقارة في الجزائر لم تكن من اختراعات الاحتلال، بل كانت ممارسة راسخة منذ العهد العثماني، حيث كان الداي يعين “رئيس الصقّارين” ليشرف على هذا النشاط، وليعطيه مكانة رسمية في البلاط الحاكم. لم يكن الأمر إذن مجرد هواية بل مؤسسة اجتماعية وثقافية لها نظامها، ولها رموزها، ولها دلالتها على الهيبة والسيادة. وعندما جاء الاحتلال الفرنسي وجد هذا الفن حيّاً متجذراً في الجلفة والأرياف، فلم يكن أمامه إلا أن ينقل المشهد إلى نصوصه ووثائقه، اعترافاً ضمنياً أن ما اكتشفه ليس وليداً لحظة، بل إرثاً ضارباً في عمق التاريخ.

الجلفة وأولاد نايل هما معقل هذا الموروث الأصيل. هناك حيث الولاء للأرض أوّل، وحيث النقوش تحكي الحكاية، وحيث الصقر لا يروّض إلا بالصبر والحكمة. الصقارة في هذه المنطقة ليست مجرّد رياضة بل فلسفة كاملة، علاقة إنسانية روحية تقوم على الوفاء والتعلّم. الصقر يُربّى بالقوانين الشفوية، يُعلَّم بالأبوة، يُغنّى له بالأهازيج، يُكرَّم بالقصائد الشعبية، يُربّى على الصبر والتحدي، ويُعامل كرفيق لا كأداة. في كل مرة ينقضّ الصقر على الأرنب أو الحباري، أو يلتصق بفريسته حتى يُجهز عليها، لا يكون الإنسان متفرجاً فحسب، بل شاهداً على لحظة تكتمل فيها دورة التراث: الطائر، الطبيعة، الإنسان، والفن في تناغم واحد.

لقد واصل أهل الجلفة هذا الموروث حتى زمننا، عبر جمعيات وهيئات محلية تبذل جهوداً حثيثة لحماية هذا التراث من التلاشي. من بين هذه الجمعيات “حمى الصقّار النايلي” التي يقودها خالد بن مزوز، والتي جعلت من رسالتها الحفاظ على الطيور الكواسر، والتوعية بقيمتها، وإدماج الصقارة في مفاهيم حماية البيئة. كذلك جمعية “بيازرة” التي تشكل جسراً بين الصياد التقليدي والحماية الحديثة للطبيعة. ثم هناك أسماء أيقونية في المنطقة مثل محمد الرعاش المعروف بـ”شيخ الطيور”، الذي صار رمزاً للصبر والخبرة والعشق لهذا الفن، رجل يروي للأجيال قصة الصقر كما يرويها شاعر، يقدّم الطائر كما يُقدَّم بطل أسطوري، ويمنحه من دمه وروحه ما يكفي ليظل حيّاً في الذاكرة.

وعلى المستوى الدولي، لم يبق الموروث حبيس الجغرافيا، بل خرج إلى العالم محلقاً. فقد اعترفت اليونسكو بالصقارة كتراث ثقافي غير مادي للإنسانية، إدراجٌ فتح الأفق أمام هذا الفن ليُقدَّم بوصفه جزءاً من الهوية الإنسانية المشتركة، لا مجرد ممارسة محلية. الصقارة كما عرّفتها المنظمات الدولية ليست مجرد تربية لطائر أو تدريب لمخلب، بل هي منظومة قيم: احترام للطبيعة، فهم للبيئة، تواصل مع الأرض، وتوريث للمعرفة. بفضل هذا الإدراج، صار للجزائر حضور دولي في المؤتمرات والمهرجانات التي تُعنى بالتراث الحيّ، وصارت الجلفة تحديداً موضع اهتمام الباحثين، والسياح الثقافيين، والهواة الذين يرون فيها نموذجاً للأصالة.

ومن النجاحات العالمية أن الجمعيات الجزائرية انخرطت في شبكات تعاون دولي، فشارك الصقّارون في ملتقيات عربية وخليجية، واحتكّوا بتجارب دولية من الإمارات والسعودية وقطر، حيث الصقارة هناك تُمارس أيضاً كهوية وثقافة. هذا التبادل مكّن الجلفة من أن تكون جزءاً من خريطة الصقارة العالمية، من أن تقدّم تجربتها الخاصة كأنموذج يوازن بين الأصالة والحفاظ على البيئة. كما أن الإعلام العالمي بدأ يلتفت إلى هذا التراث، فظهرت تقارير ووثائقيات تسلط الضوء على الممارسة في الجزائر، وتعرض صوراً ومشاهد من الجلفة، مبرزةً أن هذا الإقليم ليس مجرد صحراء، بل حضارة حيّة.

في المهرجانات التي تقام بالجلفة مثل المهرجان الثقافي الوطني للثقافة والتراث النايلي، لا يُعرض الطائر فحسب، بل تُعرض الحكاية كلها: الأهازيج، الملابس التقليدية، الأدوات المستعملة في الصيد، الأمثال الشعبية، القصائد التي تمجّد الطير والصياد. هذه المهرجانات جعلت من الصقارة وسيلة لتعليم الأجيال الجديدة قيم الصبر والحرية، ولغرس فكرة أن الإنسان لا يكتمل إلا حين يفهم طبيعته وبيئته. كما أنّها ساهمت في خلق نشاط اقتصادي ثقافي، عبر جذب السياح والباحثين، وفتح فرص عمل مرتبطة بالحفاظ على الطيور والتدريب عليها.

لقد امتد النجاح أيضاً إلى البعد البيئي، حيث صارت الصقارة مدخلاً لحماية الأنواع النادرة من الانقراض. فالوعي بأن الصقر يجب أن يُصان لا أن يُستنزف أدى إلى إنشاء مبادرات لحماية الطيور الكواسر، ولتنظيم الصيد بما يتوافق مع البيئة. الجمعيات في الجلفة نجحت في الضغط على السلطات لتخصيص تراخيص قانونية تتيح ممارسة الصيد التراثي في إطار ثقافي محكوم، بعيداً عن الصيد الجائر. هذا جعل من الصقارة ليس مجرد فعل تقليدي بل أداة لحماية التنوع البيولوجي.

إن من ينظر اليوم إلى خريطة هذا الموروث يرى أن الجلفة أصبحت نموذجاً للتراث الحي، نموذجاً يُدرَّس في اليوميات الدولية كحالة توازن بين الأصالة والتجديد. هنا الصقر ليس طائراً عادياً، بل رمزاً للهوية والحرية والكرامة. وهنا الصقّار ليس صياداً عادياً، بل حافظاً لذاكرة الأجيال، وحارساً لقيم لا تموت.

ولا يزال الطريق ممتداً، فالتحديات كثيرة: حماية الأنواع المهددة، مواجهة الصيد غير المشروع، توثيق المعرفة الشفوية كتابةً وصوتاً وصورةً، تعليم الأطفال أن الصقر ليس مجرد وسيلة، بل كائن يستحق الاحترام. ومع ذلك فإن النجاحات التي تحققت، من إدراج عالمي، واعتراف رسمي، وتنامي الاهتمام الإعلامي، كلها دلائل على أن هذا الإرث باقٍ، وأنه لا يُقهر.

فمن الجلفة تحلّق الصقارة، ومن أولاد نايل يخرج الطائر الحرّ ليذكّرنا أن الثقافة ليست في الكتب فقط، بل في المخالب التي تعانق السماء، في العيون التي تترصّد الفريسة، في الحناجر التي تغني للحياة. إن الصقارة هناك ليست ماضياً يُروى، بل حاضراً يُعاش، ومستقبلاً يُنتظر، وحكاية لا يملك أحد أن يختمها. فهي قصيدة مفتوحة على الأبد، وصرخة حرية، وإرثٌ لا يُقهر.