الجنائية الدولية: بين استهبال أمريكي وسعار إسرائيلي

صبحي حديدي

الأرجح أنّ حدود المنطق، حتى في أبسط مستويات العقل والتعقل، يصعب أن تنطبق على السعار الراهن ضدّ محكمة الجنايات الدولية، على خلفية إصدار مذكّرتَيْ اعتقال بحقّ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير الحرب الإسرائيلي السابق يوآف غالانت؛ وليس هذا داخل حدود الكيان الصهيوني أو في صفوف أنصار دولة الاحتلال هنا وهناك، فحسب، بل حيثما تنشط مجموعات الضغط الصهيونية وتُلقي قبضة ثقيلة على الأفواه والأقلام والمنابر.
للمرء أن يذهب، من دون إبطاء إلى السناتور الجمهوري جون كوتون الذي طالب بتطبيق «قانون لاهاي» على محكمة الجنايات (لأنها مجرّد «محكمة كنغر»)، وعلى المدعي العام كريم خان (لأنه «متعصب مختلّ العقل»)؛ و«الويل لكلّ من تسوّل له نفسه محاولة إنفاذ تلك المذكرات غير القانونية» كما صرّح. وأمّا القانون ذاك، فيعود إلى سنة 2002 ويُعرف باسم «قانون حماية أعضاء الخدمة الأمريكية» وقُصد منه ردع المحاكم عن المساس بأيّ أمريكي يمكن أن تُثار ضدّه تهم ارتكاب جرائم بحقّ الإنسانية.
في نظرة أخرى إلى سعار السناتور كوتن، نتنياهو وغالانت ليسا مواطنين يحملان الجنسية الإسرائيلية فقط، بل يمكن إدراجهما في خانة حملة الجنسية الأمريكية، أو بالأحرى هم في عداد «أعضاء الخدمة» الأمريكية؛ الأمر الذي قد لا ينافي واقع الأمر الفعلي في نهاية المطاف، ولكنه يمكن أن يُغضب نتنياهو على الأقلّ، المتفاخر الدائم بامتياز الجنسية الإسرائيلية. ولكن حتى لو ذهبت مخيّلة استهبال كوتون وسواه إلى فرضية سوريالية قصوى، مثل إقدام السلطات الهولندية على اعتقال نتنياهو عند قيامه بزيارة أمستردام مثلاً، فهل سيدعو السناتور إلى اجتياح هولندا عسكرياً، والبلد عضو في الحلف الأطلسي ويتوجب على واشنطن استطراداً أن تهبّ لنجدته من الغزو… الأمريكي؟
السناتور الآخر، لندسي غراهام، سابق الرياح واستبق التئام الكونغرس ليعلن أنه سوف يطرح مشروع قرار «يحذّر الأمم الأخرى» من مغبّة مساندة المحكمة الجنائية بعد إصدار مذكرتَي الاعتقال؛ وإلا فالعواقب من جانب الولايات المتحدة، سوف تكون وخيمة وفورية، وتعتمد القوّة بالمعنى العسكري وليس المعنوي وحده. السبب في يقينه يتجاوز الاستهبال: إذا سكتت الولايات المتحدة هذه المرّة، فالدور المقبل سيكون علينا. غراهام نفسه، ولكن بصدد مذكرة المحكمة ذاتها بحقّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قال التالي: «خطوة عملاقة في الاتجاه الصحيح بالنسبة إلى المجموعة الدولية»، وهي «أكثر من مبررة بالدليل القاطع».
ثمة، في المقابل، رياضة أخرى طريفة تصعب مقاومة إغواء استعادتها، مثنى وثلاثاً وعشراً، هي المقارنة بين صفة «المشينة» التي استخدمها الرئيس الأمريكي جو بايدن في إدانة مذكرات اعتقال نتنياهو وغالانت؛ وبين الواصف نفسه، سيد البيت الأبيض، وهو يتغنى بقرار التوقيف الصادر عن المحكمة ذاتها، ولكن ضدّ بوتين: خطوة «محقّة»، و«تسجّل نقطة قوية للغاية». وكي لا يغيب صوت إدارة دونالد ترامب عن الجوقة، أعلن مستشاره المعيّن للأمن القومي مايك والتز أنّ المحكمة ليست شرعية أصلاً، ولا مصداقية لقرارات تتخذها في ظلّ تفنيد أمريكي لها؛ وبالتالي: «انتظروا شهر كانون الثاني/ يناير»، موعد تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب.
والأرجح أنّ ردود الفعل الإسرائيلية لم تخيّب ظنّ أحد في جانب واحد على الأقلّ من سعار جماعي، ضمّ الائتلاف الحاكم و«المعارضة» معاً، وهو الركون إلى فزّاعة العداء للسامية، العتيقة المستهلَكة التي باتت مطية لكلّ ما هبّ ودبّ من أنساق الاقتراب من دولة الاحتلال؛ مع تنويعات غير مفاجئة بدورها، إلا في مقادير استهبال عقول البشر ربما. كما حين يذهب نتنياهو إلى مقارنة نفسه بالضابط الفرنسي اليهودي ألفرد دريفوس أواخر القرن التاسع عشر، لعله بذلك ينتظر إميل زولا معاصر من أيّ صنف، بوثيقة «إني أتهم» أياً كانت ركاكة التقليد والتزييف.

شاهد أيضاً