الحرب كجريمة كونية: من ذاكرة الدمار إلى أفق المصالحة:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

لا تزال آثار الحروب تواصل صفع الذاكرة الإنسانية، وتستحضر معها ارتجافات الخوف والضياع، وتبقي العالم بأسره في حالة تيه بين ماضٍ لم يندمل، وحاضر مهدد بالانفجار، ومستقبل غائم تترصده الأزمات. كأن البشرية — رغم كل ما مرّت به — لم تبرأ بعد من لعنة الحروب، ولم تبلغ سنّ الرشد الحضاري الكفيل بردع غرائز الإبادة والهيمنة.
إنّ التأمل في تاريخ الحروب الكبرى، لا سيّما الحربين العالميتين، يجعلنا نوقن أن الدم الذي سال لم يجفّ بعد، وأن صدى الانفجارات لا يزال يدوّي في ضمائر من بقوا أحياء، أو ورثوا ألم الذكرى جيلاً بعد جيل. لم تكن تلك الحروب أحداثًا عابرة، بل زلازل حضارية غيّرت مسار التاريخ، وانكسرت فيها النماذج العقلية التي لطالما تغنّى بها الإنسان الحديث عن التقدم والرقيّ والتحضّر.
الحرب… حين تخرج السياسة عن عقلها
قال كارل فون كلاوزفيتز، المنظّر العسكري الألماني، بأن “الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى”، غير أن هذا التصوّر بدا مع كل مجزرة كونية كأنّه تبرير أخلاقي قاصر لما لا يُبرر. فالسياسة التي تفقد قدرتها على الحوار والعقلنة، وتتحوّل إلى مدفع أو قنبلة نووية، ليست إلا خيانة للعقل وتنكراً للإنسانية. وهذا ما جعل المفكر الفرنسي ألبير كامو يصرّخ في وجه العالم بعد الحرب العالمية الثانية قائلاً:
“إذا فُقدت قيمة الإنسان، فلن يبقى شيء للدفاع عنه.”
ما حدث في أوروبا خلال القرنين الماضيين، من حروب إبادة، ونزاعات مذهبية وعرقية وأيديولوجية، كان كافياً لتدمير ليس الجغرافيا وحدها، بل حتى المخيال الجمعي الأوروبي الذي بدا وكأنه استيقظ على نفسه بعد أن مرّ على بحر من الدم. ولأن الشعوب الذكية تكتب مأساتها على جدران ذاكرتها لا كي تبكيها فقط، بل كي لا تكرّرها، نشأت عقلية جديدة في أوروبا، تواقة إلى التكامل لا التصارع، وبدأت التكتلات الاقتصادية والسياسية تأخذ مكان الإمبراطوريات، وبرزت فكرة “أوروبا الواحدة” بدل “أوروبا الحروب”.
الحروب العربية: التاريخ الذي يعيد نفسه بمزيد من الدمار
بينما سعت أوروبا نحو دفن ماضيها الدموي، كانت المنطقة العربية تفتح جراحها من جديد: من حملات الرومان، إلى الصليبيين، إلى المغول والتتار، إلى الاستعمار الحديث الفرنسي والبريطاني، وصولاً إلى العدوان الصهيوني والأمريكي على العراق وفلسطين وسوريا ولبنان وليبيا… والقائمة تطول.
ما زالت الذاكرة الجمعية العربية مشبعةً بالخسارة، مشوهةً بالمجازر، مسحوقةً تحت وطأة الاحتلال والاقتتال الأهلي. وما زالت الحروب في المنطقة تُخاض باسم العقيدة أو القومية أو “التحرر”، فيما الشعوب تُسحق، والمدن تُجتث، والهوية تتآكل. كأن العرب قد قُدر لهم أن يعيشوا في دورةٍ دمويةٍ لا تنتهي، تُغذّيها أنظمة شمولية، وصراعات طائفية، وخطابات عاطفية مسمومة، وأسواق سلاح مزدهرة.
وهنا، يستعيد التاريخ منطقه الساخر: ففيما كانت أوروبا تتعلم من مآسيها، كانت المنطقة العربية تعيد إنتاج أخطائها بأقنعة جديدة. وإن كان التاريخ، كما يرى هيغل، لا يعلّم أحداً شيئاً، فإن المشكلة في العالم العربي ليست في عجزه عن التعلم، بل في استقالة العقل من وظيفته الأخلاقية.
من ذاكرة الدمار إلى أفق المصالحة
لا يمكن استشراف مستقبلٍ عربي آمن دون مصالحة شجاعة مع الماضي، ودون فهم أن الحروب ليست قدراً، بل خياراً، وأن خيار الحرب يعني نفي المستقبل.
إن العمل على إطفاء النزاعات لا يبدأ من طاولات التفاوض وحدها، بل من إصلاح العقول التي تبرر القتل، وبناء ثقافة سياسية جديدة تُؤمن بأن القوة لا تصنع الأوطان، بل تُسقطها.
العالم العربي بحاجة إلى لحظة عقلانية كبرى، تشبه تلك التي عاشتها أوروبا بعد الحرب الثانية، حين أدرك الجميع أن الخراب لا ينجو منه أحد. هذا يتطلب ما سمّاه الفيلسوف يورغن هابرماس “التواصل الأخلاقي”، أي الاتفاق على معايير إنسانية جامعة تتجاوز القومية والدين والمصلحة الضيقة.
الأدب شاهدًا على فظاعة الحروب
ليس عبثًا أن يكون الأدب هو المرآة الأكثر صفاءً في رصد نتائج الحروب. فرواية “الحرب والسلام” لتولستوي، لم تكن ملحمة عن الحرب فقط، بل تأملًا إنسانيًا عميقًا في كيف تصنع المآسي رجالاً ونساءً أكثر نضجًا. تمامًا كما فعلت مارغريت ميتشل في “ذهب مع الريح”، حين حولت بطلتها من فتاة مدللة إلى امرأة تواجه قدرها بشجاعة وسط ركام وطنها المحترق.
الروايتان لا تمجّدان الحرب، بل تسخران منها، وتحتفيان بقيمة الصبر والمقاومة الأخلاقية، وتضعان الإنسان في مركز الحقيقة، لا الإمبراطور أو الجنرال.
خاتمة: صوت العقل فوق قرقعة السلاح
ما أحوجنا اليوم إلى استلهام هذه الدروس التي كتبها الألم، ونقشتها المعاناة. فالحروب مهما تلونت، لا تأتي إلا على ظهر الخداع والدم، وتذهب تاركةً خلفها خرائط جديدة لا تسكنها الشعوب بل الأشباح.
لا مستقبل لعالم عربي ينشد التقدم بينما يتكئ على البندقية لا على الكتاب، وعلى الكراهية لا على العدالة، وعلى العصبية لا على الدولة المدنية.
وكما قال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في كتابه “السلام الدائم”:
“السلام ليس وهماً، بل هو شرط من شروط العقلانية السياسية.”
فليكن العقل إذن، لا الغريزة، هو قائد السفينة، ولتكن المصالحة لا الانتقام هي دستور المرحلة المقبلة، علّنا نستعيد ما فقدناه من إنسانية، وما نأمله من سلام.