بعد أسبوع من السابع من أكتوبر عام 2023، كتبت في صحيفة “العرب” مقالًا بعنوان “بروفة حرب عالمية”، بدأته حينها بجملة: شرق أوسط يحترق… جنون سياسي ملتهب بدأت شرارته من غزة.
لكن ما جرى منذ ذلك اليوم المشؤوم، وما تلاه من أحداث، شكّل تحضيرًا وتمهيدًا لما نشهده حاليًا من تطوراتٍ لم تهدأ وتيرتها، بل تمضي بوتيرة متسارعة نحو تصعيدٍ متزايد يتسم بالانحدار؛ فلم تعد تجدي نفعًا المطالبة بوقف الحرب، إذ أصبحنا في قاع الصراع. كل ذلك بفضل لغة سياسية غوغائية صاخبة تحمل رسائل تهديد بصبغة يمينية دينية، تسعى لإقناع الجماهير بامتلاكها “الحق المطلق”، لتكتمل الصورة بسيناريوهات مكرّرة: إجلاء للرعايا، صواريخ ونيران، احتمالية إعادة فتح الجبهات مجددًا، ووعيد بضرب قواعد عسكرية مترامية في المنطقة، إضافة إلى تصريحات بتدخل عسكري ذي طابع أميركي وأوروبي.. طائرات وحاملات تتمركز في نطاقٍ يضج باتصالات دبلوماسية لم تلقَ صدى يُذكر لاحتواء ما يمكن احتواؤه، بينما تواصل وسائل الإعلام الترويج للمزيد.
الثابت الوحيد هو أننا نعيش لحظة تحول فارقة في تاريخ الشرق الأوسط، إذ أصبحت سيناريوهات، كانت حتى وقت قريب تُعد ضربًا من المبالغة في التحليل السياسي والعسكري، أقرب إلى الواقع من أي وقت مضى.
الهجمات بالطائرات والقصف الصاروخي لم يعودا استثناءً بل أصبحا نمطًا مستدامًا لمسار صراعٍ متعاقب الفصول؛ بدأ بالوكالة، وها هو اليوم يقترب من صدامٍ مباشر، حدوده تلامس نقطة اللاعودة في دوامة عنف قد تبتلع شعوبًا ودولًا.
تجاوزت طهران وتل أبيب مرحلة الرسائل المشفرة عبر الوسطاء، وانتقلتا إلى مرحلة الرسائل المتفجرة، التي ترسم لكل طرف سقفًا سياسيًا على طاولة تفاوض بملامح عبثية، وسط تصعيدٍ لفظي حماسي يدفع نحو توسيع رقعة الحرب تحقيقًا لمصالح متضاربة في زعامة شرق أوسطية منقوصة.
ببساطة، ما نشهده اليوم ليس ذروة المشهد، بل مقدمة تمهيدية لكتاب قد يُخلَّد داخل صفحاته أعنف صراع إقليمي في العصر الحديث، إذا قرر الطرف الأضعف -النظام الإيراني- نقل المواجهة من خانته الضيقة إلى الدائرة الأوسع، لتشمل لاعبين دوليين.
فالاصطفاف السياسي الدولي بات واضحًا: الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل من جهة، وإيران وبقايا ميليشياتها من جهة أخرى، ومن خلفهم روسيا والصين اللتان تدركان أن أي حرب على إيران ستُخلّ بموازين القوى في المنطقة، بما ينعكس على مصالحهما السياسية والاقتصادية، خاصة تلك المرتبطة بخطوط إمداد النفط الإيراني، في ظل تهديدات متصاعدة بإغلاق مضيق هرمز.
مؤشرات الحرب الشاملة جلية، متمثلة في الدعم السياسي والعسكري غير المحدود، والذي ارتقى إلى مستويات من الانخراط والمشاركة المباشرة في التصعيد والاشتباك، ما قد يدفع إسرائيل للذهاب بعيدًا في أهدافها نحو اقتلاع جذور النظام الإيراني، الذي إن توجّس الخطر على استمرارية بقائه، فقد يقلب الطاولة على كامل الإقليم.
في المقابل، فإن فرص الوساطة السياسية -التي يعوّل عليها البعض- ستصطدم بعناد أطراف الصراع، الذين لن يقبلوا بصيغ الواقع السياسي الحالي، المتأرجح بين أهداف تفاوضية من جهة، وسعي لتغيير واستبدال أنظمة الحكم الإقليمية من جهة أخرى.
وهو ما يقودنا إلى حقيقة ثابتة أخرى: إن ما يجري اليوم، وما قد يجري لاحقًا إن استمر هذا النسق التصعيدي، سيقود حتمًا إلى حرب شاملة بمفهومها التقليدي، وستفرض بدورها معادلات سياسية وعسكرية جديدة، تجعل نبوءة “الشرق الأوسط الجديد” واقعًا متجسدًا لا يُستبعد حدوثه.