منذ أن بدأ الإنسان في تشكيل وعيه الجمعي، ظلّت مفاهيم الحرية والتحرر تتردّد في خطابات الفلاسفة، ونصوص المفكرين، وشعارات الحركات الاجتماعية والسياسية. ولئن بدا للوهلة الأولى أن الكلمتين متقاربتان في المعنى، فإنّ الغوص في جذورهما الفلسفية والسياسية يكشف عن مسارات مختلفة، بل ومتصادمة أحيانًا، من حيث المرجعيات الفكرية، والمقاصد، وأدوات التحقق. فالحرية، كما تبلورت في الفلسفة الليبرالية، تُعنى باستقلال الفرد وحقوقه ضمن إطار الدولة والقانون، بينما التحرر يرتبط غالبًا بالسياقات الجماعية، والنضال ضد الهيمنة والقهر، والسعي نحو الاستقلال الوطني والاجتماعي.
هذه الدراسة تحاول مقاربة المفهومين مقاربة إمبريقية، تُبرز الفوارق الجوهرية بينهما، وتكشف كيف يمكن أن يتقاطع أو يتباعد مسارهما في الواقع السياسي والاجتماعي، لا سيما في السياق العربي المعاصر.
يتجلّى المفهوم المركزي للحرية في إطاره الفكري ومسار تفرّعه إلى مرجعيته الأساسية، وهي الفلسفة الليبرالية، حيث يكتسب معانيه وصيغه ودلالاته من جوهرها. أما مفهوم التحرر، فقد نشأ وتكوّن داخل مرجعية فكرية أخرى، تختلف عن مرجعية الحرية، إذ ارتبط بالمرجعية الوطنية والاجتماعية والاشتراكية. لذا، لا يمكن البحث عن جذور أحدهما في الآخر، لاختلاف المنابت والإشكاليات التي يعالجها كل منهما، خاصة في مجالي السياسة والاجتماع.
ورغم التقارب الاصطلاحي بين اللفظين، الذي قد يوحي بالتطابق أو الترابط، فإنّ هذا لا يعدّ قرينة على قرابة حقيقية أو دلالية، إذ يسير المفهومان في طريقين متمايزين. فالحرية، في تحديدها العام، هي حالة يولد منها استقلال ذاتي كامل عند من يبلغها، وهي حالة موضوعية وعقلانية قبل أن تتحوّل إلى تجربة ذاتية يعيشها الفرد.
أما التحرر، فهو مصطلح يُستخدم لوصف الجهود الرامية إلى نيل الحقوق السياسية أو الاجتماعية أو المساواة، لصالح فئة محرومة أو مهمّشة، أو لمناقشة قضايا تمسّ حياة جماعة من الناس. يتميز التحرر بفاعلية ذاتية واعية وعقلانية، لكنه ليس فعلاً فرديًا، بل فعل جماعي تمارسه جماعات، بحيث تكون حرية الفرد جزءًا من حرية الجماعة.
الحرية، بهذا المعنى، هي التزام واعٍ بالقيود والضوابط التي تفرضها الحضارة والمجتمع، بما يتيح للفرد تحقيق مشروعه وغايته ضمن احترام القوانين والأنظمة والأعراف. أما التحرر، فيرتبط غالبًا بمسار النضال الجماعي ضد أشكال القهر والظلم، سعيًا لبلوغ الحرية.
ومن المهم التمييز بين الحرية كمجال سياسي تضمنه الدولة، والتحرر كحالة نضالية جماعية تنشأ من الوعي بالحاجة إلى الحرية. فالقوانين تكفل الحرية، لكنها لا تكفل التحرر، لأن الأخير يتشكل أساسًا في ميدان المجتمع، وتتبنّاه الجماعات الوطنية أو الطبقية أو القومية، وليس الأفراد منفردين. ولهذا، لا يدخل التحرر في منظومة الفكر السياسي الليبرالي الذي يركز على الفرد.
في الفكر السياسي الغربي، أسهمت النظرية الليبرالية في صياغة ملامح الدولة الحديثة، مرتكزة على حماية حقوق الأفراد. وقد مرّت الليبرالية بمراحل متعددة، وأسهم فلاسفتها في وضع تصورات سياسية جديدة جعلت من الحرية الفردية محورًا أساسيًا. غير أن هذا التركيز جعلها بعيدة عن قضايا التحرر الوطني أو الاجتماعي، التي تتبناها الحركات الثورية.
ينبغي أيضًا التمييز بين التحرر والتحرير: فالتحرير يطال موضوعًا محددًا كالوطن أو السيادة أو الأرض أو القرار السياسي، بينما التحرر هو الفعل الإرادي الذي قد يفضي إلى التحرير. وقد يتحقق التحرر جزئيًا حتى في ظل غياب الاستقلال الكامل، طالما تحقق استقلال الإرادة.
ولا يمكن لحضارة الحرية الفردية، كما في الغرب، أن تدّعي اكتمال مشروعها في ظل استمرار أشكال جديدة من الهيمنة والاستعباد التي تحرم شعوبًا بأكملها من التمتع بالحرية. فالحرية بلا تحرر مشروع منقوص. وطالما تجاهلت المنظومة الليبرالية فكرة التحرر، فلن تكون الحرية معطى إنسانيًا شاملًا.
في عالمنا العربي، يتجلّى هذا بوضوح في ممارسات الدول الكبرى التي تعيق حق الشعوب في التحرر، عبر الاحتلال والاستيطان ونهب الأرض، وتغيير معالمها، وتزوير التاريخ، وقمع الحركات الوطنية، ووصم المقاومة المشروعة بالإرهاب، وفرض الحصار، وهدم البيوت، ومصادرة الأراضي، وتعطيل القرارات الدولية، واستخدام الفيتو لحماية المعتدي. هذه الممارسات تكشف تناقض الخطاب الغربي عن “العالم الحر”، وتفضح ثقافة التمييز التي تمنح الحرية لشعوب وتحجبها عن أخرى.
تمام، سأضيف لك خاتمة تحليلية بأسلوب أكاديمي تربط بين المقدمة والتحليل، وتبرز أهم النتائج التي توصل إليها المقال، مع لمسة فكرية تُغلق النص بعمق.
–خاتمة:
يكشف التمييز بين مفهومي الحرية والتحرر عن فجوة معرفية وسياسية لا تزال قائمة في الوعي العربي المعاصر. فالخلط بينهما لا يؤدي فقط إلى اضطراب المفاهيم، بل ينعكس مباشرة على طبيعة النضال ووجهته، وعلى استراتيجيات العمل السياسي والاجتماعي. إذ يمكن أن تتمتع فئة أو جماعة بحقوق وحريات فردية، لكنها تظل محرومة من التحرر الفعلي إذا كانت خاضعة لبنى الاستبداد أو التبعية أو الاحتلال.
وفي المقابل، قد ينجح مجتمع ما في تحقيق قدر من التحرر من السيطرة الخارجية، لكنه لا يضمن بالضرورة الحرية الفردية لأفراده ما لم يؤسس لنظام سياسي وقانوني يكرّسها ويحميها.
من هنا، فإن أي مشروع نهضوي عربي يحتاج إلى إدراك أن الحرية والتحرر مساران متكاملان لا يغني أحدهما عن الآخر: الأول يرسّخ كرامة الفرد واستقلاله، والثاني يصون استقلال الجماعة وحقها في تقرير مصيرها. وبدون هذا التكامل، سيظل أي من المشروعين ناقصًا، وستبقى المجتمعات تدور في حلقة مفرغة من المطالبات غير المكتملة، التي قد تنتهي إما بحرية شكلية بلا مضمون، أو بتحرر سياسي لا ينعكس على حياة الأفراد.






