الحصان الشهيد

بقلم عصري فياض

حولَ دِلَالْ القهوةِ العربيةِ الأصيلةْ،وعلى أرائكٍ فارهةٍ مزينةٍ بغطاءٍ يَحملُ ألواناً من الوان العباءات التراثية،وتحث عرائش من العنب ذو القطوف المتدلية الدانية،جلس ذووا العريس من أهل القرية الجليلية الفلسطينية “شعب” الوقعة شرق مدينة عكا الفلسطينية الساحلية،بحضور مطرب الشعب،والفنان الفلسطيني الكبير الدكتور موسى حافظ بعد إنتهاء الحفل الساهر فرحاً بزفاف إبن القرية،جلسوا يتسامرون وينعمون بقسط من الراحة ويتحدثون،كانت مادة الحديث التراث الفلسطيني الذي بقي أحد أشد وأقوى الروابط التي تجمع الشعب الفلسطيني في مواقع تمزقه الثلاث،الداخل،والضفة والقطاع،والشتات،فأخذ شجن الحديث تشعباته،حتى وصل الكلام للخيّل الاصايل،وشهوة اقتنائها،وعلاقتها بكل ما يعبر عن الهوية العربية الفلسطينية…تحدث الحافظ عن شغفه وحبه للخيّل… وكيف إقتنى العديد منها فقط من أجل جمالها وروعتها،وهو يشعر أن الزجل والحداء والغناء لا يكتمل إلا بمنظومة متكالمة من التراث،تبدأ بالموال،وتمر بالخيّل العربي الاصيل،ولا تنتهي بفنجان القهوة،بل بكل ما يؤكد هويتنا العربية الفلسطينية على هذه الارض من طابون،وزيتون وسنابل قمح وسنديان وزيزفون…
قَدَحَ هذا الوصف فكر أحد كبار السن ألجالسين،والذي يبدوا عليه الوقار والمكانة بين أهل قريته،فراح يُحدث بقصة غريبة حصلت الاسبوع الفائت،كتبت عنها الصحف العربية والعبرية التي تصدر في المحتل من ارضنا في العام 1948،تفيد بوقوع خلاف بين ضابط كبير في الجيش “الاسرائيلي” ووزير سابق في حكومة الاحتلال على أحقية ملكية حصان عربي أصيل،وكيّف أن المحكمة المركزية قد تحفظت على الحصان بعد مداولات طويلة،وأعلنت أنها تعرضه للبيع،وستقوم بتقسيم ثمنه بين المختلفيّن…
شَدَّ هذا الخبر الشاعر الشعبي،وراح يستفسر في أسئلة شغف لاستيفاء الصورة عما جرى،وما استفزه وخلق في نفسه الغيرة والحميّة هو أن هذا الحصان،يتقاذفه قادة يهود،ويقودانه للحجز والابتذال،والسَوْقِ لِسُوْق النخاسة وكأنه عبد تجرد من مكانته وقيمته،فأخذ يفكر في كيّفيّة تخليصة من ” الأسر”،وما هو السبيل لإنعتاقة من العبودية…فطلب من الرجل رقم هاتفه النقال فورا،ووعده بالتواصل معه لذات الغرض…
*
مرت الايام،والفكرة في تخليص ذلك الحصان تكبر وتتعاظم في عقل ووجدان الشاعر،بل أصبحت تشكل له الارق والتفكير الكبير والعميق،بالرغم من كثافة برنامجه الميداني العملي في أحياء الحفلات والمناسبات،حتى قرر الذهاب إلى تلك المحكمة،ودفع الثمن المطلوب بالحصان،وتخليصه من العذاب…
وصل المحكمة,ودخل أروقتها،وقدم طلبه بناء على الإعلان الرسمي المنشور في الصحف،وعندما أبدى استعداده لدفع المبلغ المطلوب،والمرور بكافة الاجراءات الملزمة،طلبت الموظفة هويته لتعبئة البيانات،فأخرج هويته الفلسطينية التي تدل على أنه من سكان الضفة،فإعتذرت الموظفة فوراً وقالت :-
قرار المحكمة يحدد المشتري بأن يكون من حملة الهوية الاسرائيلية…
عاد الحافظ الى بيت صديق له في الداخل ألمحتل،فحدّثه بالأمر،وطلب منه أن يتوجه فوراً نحو المحكمة الان قبل أن يسبقه أحد،ويدفع رسوم تخليص الحصان،ويحضره له ليتمكن من نقله الى مسقط رأسه جنين،وفعلا لم يتأخر ألصديق،وخفَّ على عَجَلْ الى مقر المحكمة،وأكمل كافة الاجراءات المطلوبة،وما هي إلا ساعات قليلة،حتى عاد بالحصان العربي الاصيل الجميل والبهيّ،يقودة ويقدمه للشاعر الشعبي،الذي لاقاه بكل حفاوة وفرح،ولثمه على خده ليعبر له عن سعادته في تحريره من أسر من لا يستحقونه،وأنه تمكن من إعادته لأهله وعروبته،وما يتناغم مع بيئتة،وحيث ما ينبغي أن يكون.
*
هنا،وعلى هذه الرابية الفلسطينية ألعالية الواقعة غربيّ قريتيّ الهاشمية وكفرقود،والتي يتقاذفها الهواء العليل من الجهات الاربع،وفي كلِّ المواسم،استمتع الحصان بالحرية والدلال والمكانة…. وسعد به أهله الاصليين وعلى رأسهم الشاعر ابو حافظ،فاسترد عافيته،وصار يعدو في كل ألاتجاهات أيّ وقت شاء،زهواً بالحرية والمعاملة الحسنة والارض الطيبة،وعيّن الشاعر ترقبه،وهي تشعر بالاطمئنان والنصر،فقد حرر روحاَ فلسطينيه عربية كريمة،وكان الشاعر يوصي أولاده به خيراً بالرغم من أنه يقتني مثله الكثير،لكنه يَعِي بإحساسه المرفق والعميق حاجة هذا الحصان للتعويض عما فاته من ظلم وجور…
*
كانت الانتفاضة الثانية قد دخلت عامها الثاني،فحلَّ فصل الشتاء،المطر هنا غزير،والبرد في المنطقة قارص شديد،فأشار اليه أولاده أن يذهبوا به للإسطبل الواقع في سهل مرج بن عامر،في الجزء المعروف ببساتين جنين ،حيث الاجواء أكثر دفأ،فوافق الشاعر،وأوصاهم به مرات ومرات،فحملوه الى هناك،ولما كان الاسطبل لا يبتعد كيلومتر واحد عن مخيَّم جنين تقريبا،كان من السهل على أبناءه أن يصطحبوه من الاسطبل الى المخيَّم حيث الحركة النشطة والدائمة خاصة من قبل شباب المقاومة وفتيانها،بعد أن أصبح هذا المخيَّم ملاذاً لكل حر وحامل للسلاح،ورمزاً لكل من يريد أن يعبر عن غضبه تجاه ما يحصل لشعبه،كان الشباب والفتيان غارقون في التحضير لساعة الفصل القادمة،بينما الحصان يروح ويغدو لأسابيع وأشهر في ظل هذه الاجواء،يركض ويتحرك ويقفز،ويلامسه الصبية والأطفال،ويرمقه المارة ويرمونه بالصلاة على محمد وآل محمد،ويأخذ الى جانبه الشبان الصور ألتذكارية،وترقبه الصبايا من خلف النوافذ ومن على الاسطح،حتى عشقه المخيَّم وأهله،وعشق المخيَّم وأهله،وألِفَهُمْ وألِفُوُهْ،وعندما دنت ساعة ألصفر،وأصبحت المعركة قاب قوسين او أدنى، ذهب به أبناء الشاعر أبو حافظ الى الاسطبل،وربطوه هناك في مهجعه إلى جانب عدد من رؤوس الخيّل الأصيلة حتى يَنْجَلِيَّ الأمر.
بدأت المعركة بعد أن تقدمت عشرات الدبابات الثقيلة،وناقلات الجند المدرعة من كل ناحية وصوب،وعلت المروحيات القاذفة سماء الإسطبل المقابل للمخيَّم،وأخذت المدفعية مكانها،وتقدمت مفارز الكتائب العسكرية المقاتلة من الوحدات الخاصة نحو حارات وأحياء وأزقة المخيَّم من كل ناحية وصوب،وبدأت الحِمَمْ تصب جام غضبها على المخيَّم جوا وبرا،والإسطبل بما حوى من رؤوس خيّلٍ اصيلة يسمع ويضطرب من هول أصوات ألقذائف خاصة ما يصدر من الطائرات العمودية المعروفة باسم ” الاباتشي”،بقيت الخيّل كذلك لخمسة أيام دون أن يتمكن أحدٌ من أن يحضر لها وجبة من الطعام،أو شربة ماء، وهي في حالة اضطراب وتخبط وفزع،وأمام هذه المعاناة الطويلة،تمكن الحصان الجميل أخيراً من قطع رباطة،والانفلات من قيّدة،وتجاوز معيقات الاسطبل والانطلاق نحو المخيّم بسرعة عالية في عز اشتداد المعركة قاطعا المسافة بسرعة فائقة،وكأنه يهب لنجدة أهله وأصدقاءه وأحباءه هناك،تقدم حتى مدخل المخيَّم الشمالي غير أبه ٍ بضجيج بالدبابات وصوت قذائفها،وأزيز الرصاص وإنفجارات ألصواريخ،وعندما أراد الدخول لأول حيٍّ في المخيَّم من الجهة الشمالية،أطلق عليه قناص من قوات الاحتلال رصاصة أقعدته مكانه بعد أن عدى بضعة امتار،فبرخ مكانه وهو يصهل بصوت ضعيف،وبقي مكانه حتى وضعت المعركة أوزارها،فشاهده بعض المسعفين الذين هبوا لانقاذ الجرحى وإخلاء الشهداء،واستدعوا إلى هناك طبيبا بيطريا خاصا لمهمة انقاذ حياته،والاتصال بمالكه الشاعر أبو حافظ.
*
مرت على جراحه أسابيع لم يتوانى الشاعر الشعبي في البحث عن كلِّ ما يمكنه انقاض حياته،من عرضه على اطباء بيطريين،أو علاج او دواء،لكن الحصان الذي أوجعته تلك الرصاصة،وأصابت منه جرحا عميقا،بدأ يهزل وينكمش ويرفض تلقي ألطعام،ويوما بعد يوم،ظهرت عظام جسمه،وضاعت مفاتنه ألجميلة،وذبلت عيّنيّة ذبولا حادا حتى كادت ان تندفن بين عظام جبهتيّه وخديّة،أحس الشاعر بالقلق الشديد على حصانه الاصيل هذا،فعاد الى سؤال الاطباء البيطريين المَهَرَة من جديد،يحثُّهم لمداواته مهما كلف الثمن،ليبقى على قيّد الحياة،فقال له أمهرهم بعد أن فرغ من فحصه طويلا:-
للأسف، الحصان يموت… ولا أمل لنجاته
فقال الشاعر :- وما الحل..؟؟
صمت الطبيب طويلا ورد بنبرة حزينة : – في مثل هذه الحالات،لا علاج إلا رصاصة الرحمة
صدم الشاعر وأبناءه واصدقاءه ومن حضر…لم يستوعب أبناءه الفكرة فانسحبوا والحزن يعمر قلوبهم والدموع تتزاحم في مآقيهم…. لكن الشاعر صمت طويلا…نظر حوله فأدرك حزن أبناءه وأصدقاءه… فطلب من بعضهم أن ينقلوا الحصان الى سفح الجبل بعيدا عن أعين ألأطفال،ودخل البيت، ثمخرج منه بعد دقائق وتبعهم حيث أخذوه…
هناك إقترب الشاعر ببطيء من الحصان الجاثم على الأرض،وأخرج من جيبه مسدسا،وجهزه بالذخيرة…عند ذلك أحسن الحصان بدنو الاجل،فنهض متثاقلا…واقترب من الشاعر ببطأ،وعيناه تفيضان بالدمع،فلم يتحمل الشاعرــ الذي بكى هو أيضا ــ أن يطيل هذا المشهد القاسي من العذاب طويلا،فأطلق عليه ــ بعد أن أغمض عينه ــ رصاصة الرحمة.