الحيرة في السياسة التركية بين النسبية الواقعية والعقدة الكلية

أحمد بيرهات

تعيش المنطقة هذه الأيام صيفاً حاراً على كافّة المستويات والصعد؛ الطبيعية منها والسياسية ، بدءاً من ارتفاع درجة الحرارة إلى درجة الخمسين في بعض المناطق، وصولاً إلى تسارع مستوى التطوّرات السياسية والعسكرية؛ ابتداءً من ليبيا إلى اليمن مروراً بغزة وجنوب لبنان إلى مناطق شمال وشرق سوريا إلى مناطق حماية ميديا (مناطق الدفاع المشروع) وإلى شمال كردستان، إضافة للتطوّرات التي ظهرت في النصف الأول من هذا العام؛ حيث هزيمة مشروع الإسلام السياسي لحزب العدالة والتنمية (AKP) وظهر ذلك جلياً في نتائج انتخابات البلدية في تركيا والتجاوب النسبي لدولتي العراق وسوريا معها، لكن ليست كما خطّطت لها في سياستها المطالبة في حيثية الأولوية الأمنية على حساب مصالح الدول الأخرى، فهذا  التوجّه الذي أعقب هزيمة أردوغان المدوية وانسداد أفق سياسته الميكافيلية وسذاجتها اللامتناهية والمستمرّة منذ 22سنة وتحديداً خلال وبعد ما سُمّي بـ”الربيع العربي” وما تمخّض عنه من تطبيق تركيا لسياستها التوسّعية والاشتياق إلى “الأيام الخوالي” العثمانية، هذه السياسة الجديدة التي تتّخذ من بنود “الميثاق الملّي” والعثمانية الجديدة منهجاً لها، ونشاهد إجراءاتها الفعلية الآن، ولو نسبياً، في إقليم كردستان وشمال وشرق سوريا -رغم أنّها لم تحصل على الشرعية القانونية لها- إلّا أنّها قائمة على قدم وساق رغم وصولها لمرحلة فقدان توازنها، فقد بات ملاحظاً في السياسة الدولية، خاصة الأمريكية منها، أنّ الأجندات الخاصة للسياسة التركية التي تتحكّم بها ” تركيبة الذهنية القوموية والإسلاموية ” قد طغت على المهام التي كانت قد كلّفها بها داعموها، وبذلك تكون قد جنت على نفسها وبات يُنظَر إلى تركيا على أنّها تعمل وفق أجنداتها على حساب مخطّطات وبرامج قوى الحداثة الرأسمالية والاحتكارية نفسها ( وهذا واضح في مسألة تعاملها مع روسيا وإيران وبعض المسائل الاخرى) وبالتأكيد هذه القوى ترفض ذلك، وستزيح أي ذهنية أو حكومة تتحدّى أو تقف ضد مصالحها التي تتّخذ من الربح المالي أساساً لها وتسخّر كلّ القيم والأخلاقيات لأجنداتها، يرتبط كلّ ذلك ارتباطاً وثيقًا بما حصل ويحصل في المنطقة من حالة اللاتوازن في السياسات الإقليمية بشكل عام والتركية منها بشكل خاص.

بعد إعلان الإدارة الذاتية الديمقراطية عن استعدادها لإجراء انتخابات البلدية في مناطقها (تم تأجيلها إلى شهر آب القادم لأسباب سياسية وتنظيمية) استغلّ أردوغان وحكومته هذا الإجراء؛ فقام بالإسراع في الترويج والتصريح بنيّته إعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق، وجرى تضخيم  هذا الإعلان عبر تسخير الآلة الإعلامية الكبيرة لديه لغاية تحقيق هذا الهدف والتأثير على الرأي العام التركي من خلال مناقشة مكاسب تركيا من هذه السياسة، وذلك بالرغم من أنَّ الهدف الأساسي لها هو وأد التجربة الديمقراطية القائمة في مناطق شمال وشرق سوريا، وكسب الوقت وخلق مساحة لتناور فيها سياسياً واقتصاديا، وإلهاء الشعب التركي بها بفعل الأزمات التي تعيشها على الصعيدين الداخلي والخارجي.

هناك نقطة يجب التطرّق إليها وهي ضعف القراءة الأبستمولوجيا للأحداث والمستجدّات التي تعيشها المنطقة وخُلوّها من التحليل والرؤى التفسيرية وعدم التعمّق فيها، وخاصة ما يتعلّق بإمكانية إعادة العلاقات التركية-السورية، وهذه المعضلة يعيشها معظم السياسيّين والمثقّفين في المنطقة، وهذا بالضبط ما يساهم في تقليل مستوى الوعي الجماهيري لما يحدث من تطوّرات في المنطقة، وهو ما يفتح المجال أيضًا لبعض فئات المجتمع للارتهان للأفكار الغيبية وغير الواقعية؛ فتارةً تتّخذ التقييمات الجارية الجانب الأيديولوجي الضيّق أساساً لها، وتارةً أخرى تغيب عنها القراءة التاريخية الممنهجة وبقصور براديغمائي؛ وكلاهما يعنيان سوسيولوجياً القصور في الرؤى وتحوّلها إلى قضية مستعصية بحدّ ذاتها، وتجليد الذات بالنسبة للشخصية والحركات تكمن في هذه النقطة.

وعندما نعود للبحث والتمعّن في جدوى وإمكانية عودة العلاقات بين سوريا وتركيا سنرى أنّ الدولة التركية – في الأساس – محتلّة لأراضي الآخرين، إذاً؛ هي دولة احتلال وتدعم فصائل وشخصيات قبلت الارتزاق، وفضّلتها على المصالح الوطنية، لذلك؛ ما إن تنسحب تركيا من الأراضي التي تحتلّها وتوقف دعمها للإرهاب فستُحلّ المشاكل وتعود الأمور لنصابها الصحيح.

في المقابل؛ قرأنا الموقف الصريح والواضح الصادر عن رئاسة وخارجية حكومة دمشق في هذا الشأن؛ ومفاده: لا علاقات رسمية مع تركيا دون انسحاب الجيش التركي من كل المناطق السورية المحتلة، ابتداءً من إدلب وإعزاز وعفرين وكري سبيه وسري كانيه، وقد لاقى  هذا الموقف ترحيباً من كلّ الوطنيين السوريين والمطالبين بعودة السيادة الوطنية السورية على أراضيها وامتلاك قرارها السياسي واسترجاع أراضيها المحتلة، وهذا يحمّلها (الحكومة السورية) مسؤولية الالتفات للداخل والتواصل مع القوى والأحزاب الوطنية والاتفاق على القواسم المشتركة لمجابهة  الطامعين بخيرات البلد.

وبالتأكيد؛ يجب فهم هذه المسألة على هذه الشاكلة، ودون ذلك فإنَّ أردوغان يريد الاستثمار في كسب المزيد الوقت وتغيير بعض التموضعات وكسب بعض النقاط في معاركه الداخلية وتلاعبه بورقة اللاجئين السوريين وبمشاعر البسطاء الديناويين، مستفيداً من كلّ ما يجري من أحداث وقضايا إقليمية ودولية في أوكرانيا وانشغال روسيا بها كأولوية لها؛ فيحاول أردوغان مجدّداً التقرّب إليها خدمةً لأجنداته ريثما تنتهي الانتخابات الأمريكية كإحدى الرهانات القوية التي اتّخذها أردوغان له في سياسته المستقبلية التي لم تبقى من غير القليل.

بالتأكيد؛ هناك حاجة لأنقرة ودمشق لعودة العلاقات فيما بينهما، لكنّ أرضية عودة هذه العلاقات لم تؤسّس بعد بالرغم من ظهور بعض مؤشّراتها على الأرض؛ كفكرة فتح بعض الطرق التجارية أو نقطة الالتقاء بينهما والتي تخصّ إنهاء تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية، إلّا أنّها لن تكون حلّا مستدامًا؛ فالحلول الدائمة ترتكز على حقوق الشعوب وعدالة قضاياها والعيش المشترك بينها.

إنّ الحكمة هنا تكمن في عودة الحكومتين في أنقرة ودمشق إلى شعوبهما وبحث حلّ القضايا مع ممثليها الحقيقيين، لتعود الأمور إلى نصابها الصحيح ويعود الشرق الأوسط إلى رونقه وأموميته للحضارة الإنسانية ويتجاوز قضاياه المستعصية التي تشكّل عائقاً أمام السلام الدائم وتغلق الأبواب أمام القوى الخارجية للتدخّل في شؤونه.

إنّ ما يتم استنتاجه من حالة التخبّط واللاتوازن في السياسة التركية الحائرة على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية هو أنَّ تركيا لم تعد بهذه الأهمية لدى مراكز القرار الدولي لموقعها الجيوستراتيجي؛ فهي كانت تراهن دومًا على موقعها الجغرافي كونها قريبة من أعداء وخصوم الغرب أي (إيران وروسيا)، أمّا اليوم فتبدو ملامح مشروع جديدة يتقبّل العيش المشترك ويمتلك عقلية مرنة، وهو قابل لريادة المنطقة وإخراجها من حالة اللااستقرار والعداء التي تذكيها بشدة الكثير من دول المنطقة وعلى رأسها تركيا وايران، طبعًا هنا نقصد مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية، وقد يواكب هذا المشروع رؤية السياسة الدولية مستقبلاً في عولمة ديمقراطية في كل الشرق الأوسط والعالم، وتظهر لبناته الأولى في تجربة شمال وشرق سوريا ويجب على العالم المتقدّم والساعي للحرية والمساواة رؤية واستيعاب ذلك والتمحيص والتمعّن في هذه الرؤية الاستشرافية جيداً.

عندما تكون المقاومة عنوان المرحلة

إذا ما خضنا في تفاصيل التطوّرات السياسية فلا يمكننا أن نغفل أو نتناسى أنَّ شهر تموز يصادف ذكرى مقاومة صيام الموت لرفاق حركة حرية كردستان، وهذا ما رفع من مستوى وأسلوب ونوع المقاومة التي تبديها قوات الدفاع الشعبي HPG في القتال ومواجهة الآلة العسكرية التركية المزوّدة بأحدث التقنيات المدعومة من دول حلف الناتو، وتثبت هذه المقاومة يوماً بعد آخر أنّها الطريقة الصحيحة والفعّالة للوقوف في وجه الأطماع التوسّعية التركية؛ فهذه المقاومة باتت تسجّل نقاطًا إيجابية ومتقدّمة على المستويات السياسية والعسكرية والجماهيرية على حدّ سواء في تركيا وكردستان والمنطقة عامة، كما تؤثّر على العقلية السياسية التركية وتعاملها مع دول المنطقة أيضًا.

ومن النتائج التي تمخّضت عن المقاومة الشاملة في الآونة الأخيرة على المستوى السياسي والعسكري، البيان الصادر عن مجموعة العشائر العراقية التي عبّرت – من خلاله – عن رفضها للسياسة التركية الاحتلالية، كما توعّدت فصائل عسكرية عراقية بمقاومة عسكرية مستميتة ضدّ الجيش التركي، إضافة إلى الموقف الرسمي للحكومة العراقية – وإن جاء خجولًا- إلّا أنّها طالبت بأن تكفّ تركيا عن استهداف الأراضي العراقية، كما طالبت بحلّ القضايا والخلافات بالأساليب السياسية والدبلوماسية، والكفّ عن التدخّل في الشؤون العراقية.

المأخذ هنا وفي هذه الحيثية يقع على الأحزاب والقوى الكردستانية في إقليم كردستان، وعلى القوى الديمقراطية في المنطقة عامة؛ فمن الضرورة أن تتّخذ موقفًا واضحًا وصريحًا حيال هذا العدوان التركي وسحب الجيش التركي لاحتلال أراضٍ شاسعة من إقليم كردستان خدمة لمصالح عائلية وحزبية ضيّقة على حساب مصالح الشعوب المتعايشة في العراق.

فعلى الأحزاب والقوى الكردستانية رفع صوتها عالياً في وجه هذه العقلية القروسطية العائلية الحاكمة في هولير وعلى هذه السياسة الحزب الديمقراطي الكردستاني PDK فهؤلاء لا يحملون من الكردياتية غير الاسم، وبالتأكيد لن تستمرّ الأمور على هذا المنوال وستقول الشعوب هناك كلمتها الأخيرة وتختار القيادة والحكومة التي تمثلها في الزمان والمكان المناسبين.

وأخيراً؛ يمكننا القول أنّه على الكرد وشعوب المنطقة العودة وإحياء ثقافة قراءة التاريخ من جديد، وأن يلعب المتنوّرون والمثقّفون القريبون من الشعب دورهم الريادي؛ كما فعل الأنبياء والرسل والفلاسفة والحكماء والعلماء وأوصلوا حضارة الشرق إلى كل أصقاع العالم، ويجب إعادة تنظيم المجتمع وإجراء ما يتطلّبه من مراجعات وتقييمات، والعمل لتأسيس وبناء مجتمع أخلاقي سياسي بيئي مفعم بالديمقراطية والمجتمعية؛ تعبّر من خلاله كلّ مكوّناته وفئاته عن ذاتها وتشكّل مع بعضها بعضًا حالة تكاملية، وعنوان هذه الثقافة موجود بين صفحات “مانيفستو الحضارة الديمقراطية”.

شاهد أيضاً