الخالد عرفات والرئيس ابو مازن “رفاق الدرب… من لهب الثورة إلى نور الدولة”

بقلم: د. منى أبو حمدية*

أكاديمية وباحثة*

في ذكرى استشهاد القائد الخالد ياسر عرفات، ووفاءً للمسيرة التي يواصلها الرئيس محمود عباس نحو الدولة الفلسطينية المستقلة
حين يلتقي الحلم بالعقل:
في ذاكرة فلسطين الممتدة من غبار المعارك إلى أفق الأمل، يطلّ وجهان يشبهان التاريخ:
ياسر عرفات (أبو عمار)، الكوفية التي صارت علماً فوق الرؤوس، والابتسامة التي تخفي وراءها إرادة لا تُقهر،
ومحمود عباس (أبو مازن)، الصوت الهادئ الذي يشبه نبض القدس حين تصلي، رجل الدولة الذي حمل على كتفيه عبءَ الثورة بعد أن غابت نارها في التراب.
رفيقان التقيا على دربٍ طويل؛ أحدهما أشعل الشعلة، والآخر حافظ على وهجها حين حاولت الرياح أن تطفئها.
لم يكن اختلافهما في الوسائل، بل تنويعاً في الحلم ذاته:
الأول أراد أن يفتح الطريق، والثاني أراد أن يُعبّده كي تسير عليه الأجيال نحو الدولة التي حلم بها الاثنان.

من رصاص الثورة إلى نبض الفكرة:

في زمنٍ كانت فيه فلسطين تُمحى من خرائط الأرض، خرج أبو عمار من بين الركام ليقول: “هنا نحن، لا نموت ما دام الحلم حيًّا.”
كان قائداً يعرف أن الثورة ليست صرخة في الفراغ، بل فعل وعيٍ من أجل الوجود.
من خنادق الفدائيين في بيروت، ومن حصاره في رام الله، كتب عرفات سطور الهوية بمداد الصبر والدم.
ولم يكن بعيداً عنه أبو مازن، شريك الفكرة والعقل الهادئ خلف العاصفة.
كان يؤمن أن المعركة لا تُحسم بالبندقية فقط، بل بالمعرفة والتنظيم والرؤية.
حين كان القائد يفتح الميدان، كان المفكّر يفتح الطريق نحو الاعتراف الدولي.
لقد كانا — منذ البدايات — جناحين لطائرٍ واحدٍ اسمه فلسطين:
جناحٌ يقاتل، وجناحٌ يُفكّر، وكلاهما يحلّق في فضاء الحرية.

أوسلو… مفترق التاريخ وصيرورة الدولة:

في دهاليز السياسة، حين كان العالم يكتب خرائطه بلغة المصالح، جلس محمود عباس إلى الطاولة التي أرادها العالم باردة، فأشعل فيها دفء الحلم الفلسطيني.
في «طريق أوسلو» لم يكن الأمر مجرد اتفاق، بل انتقال الوعي الوطني من منفى البندقية إلى أرض الشرعية.
أراد العالم أن يختبر صبر الفلسطينيين، فأثبت أبو مازن أن الصبر ليس ضعفاً بل قوة الحكمة حين تتقدّس الغاية.
ورأى أبو عمار في تلك الخطوة استمرارية لا انقطاعاً،
فهو الذي حمل الزيتون بيد والبندقية بالأخرى،
يعرف أن الغصن لا ينمو إلا إذا حماه ظل السلاح، وأن السلام لا يولد إلا من رحم الصمود.
وحين وقّع رفيقه الاتفاق، كان يعرف أن التوقيع لم يكن نهاية الثورة، بل بداية الدولة التي حلم بها.
وهكذا، التقت النار بالحبر، وبدأت مرحلة جديدة عنوانها:
“نكتب بدمنا أول سطرٍ في وثيقة الاستقلال.”

حين غاب الرمز… بقيت الراية:

رحل ياسر عرفات، لكن الثورة لم تُطفأ.
كانت وصيته مكتوبة في عيون رفاقه: “لا تسقطوا الحلم.”
ومن بين الركام، وقف محمود عباس ليُكمل الطريق، لا ببدلة عسكرية، بل بعقلٍ يُجيد لغة العالم دون أن يتنازل عن لغة الوطن.
ورث أبو مازن صمت الراحل وصخبه معاً،
أخذ من عرفات عناد الحلم، ومن التجربة حكمة البقاء.
أعاد بناء ما تهدّم، وثبّت الهوية الفلسطينية في الأمم المتحدة،
ورفع علم فلسطين فوق كل منبرٍ دولي ليقول: “ها نحن هنا، لم نأتِ من العدم، بل من ذاكرة الأرض.”
كان يعرف أن الثورة إذا لم تتحوّل إلى مشروع دولة، ستبقى معلّقة بين السماء والرماد.
فحوّل المقاومة إلى مؤسساتٍ تُقاوم بالنظام والقانون، لا بالعشوائية والدماء،
وحوّل الحلم من قصيدة إلى دستور، ومن الشعار إلى واقعٍ يُمارَس في كل بيتٍ وشارعٍ ومؤسسة.
“نحن أصحاب قضية عادلة… ولن نغادر التاريخ.”
— محمود عباس

فتحٌ واحدة… من لهب البندقية إلى نور الدولة:

فتح التي أنجبتهما معاً، لم تكن حزباً، بل فكرة تمشي على قدمين.
في مدرسة الراحل عرفات، كانت الثورة فعل حياة،
وفي مدرسة الرئيس عباس، صارت الحياة فعل استمرار.
كلاهما أدرك أن فلسطين ليست لحظة انتصارٍ سريع، بل رحلة وعيٍ طويلة تحتاج إلى جيلٍ يحمل النار بيد والقانون باليد الأخرى.
أبو عمار أعاد للعالم صورة الفلسطيني المقاوم،
وأبو مازن أعاد للعالم صورة الفلسطيني العاقل الذي يعرف أين يقف ومتى يتحرك.
الأول كتب ملحمة النضال، والثاني كتب دستور الدولة،
وكلاهما في الجوهر حَمَلا ذات الرسالة:” أن فلسطين تستحق الحياة.”
فتح اليوم تمشي بخطاهما، لا تفرّق بين الثورة والبناء، بين البندقية والموقف،
فكلاهما وسيلتان لحماية الحلم ذاته،
الحلم الذي بدأ في المخيمات، وها هو اليوم يُكتب في الأمم المتحدة بلغةٍ اسمها: “الشرعية الفلسطينية”.

” يملك القرار الوطني، يملك الحرية.”
— محمود عباس

الحلم الذي لا يموت:

من أبو عمار إلى أبو مازن، لم يتغيّر الاتجاه، بل تغيّر شكل الطريق.
كانت البداية رصاصاً في العتمة، وصارت اليوم حروفاً على منبر الأمم المتحدة.
لكن الهدف هو نفسه: الحرية، والدولة، وكرامة الإنسان الفلسطيني.
عرفات هو روح الثورة التي لا تهدأ،
وعباس هو ضمير الدولة التي لا تنحني.
الأول أشعل الفكرة بالنار، والثاني يحرسها بالنور،
وكلاهما كتب بعرقهما وجراحهما فصول الرواية الفلسطينية الخالدة.
وحين تكتمل الدولة يوماً ما،
وحين يُرفع علم فلسطين حرّاً فوق أسوار القدس،
سيعرف العالم أن الطريق الذي بدأه أبو عمار وسار فيه أبو مازن
لم يكن درباً متناقضاً، بل طريقاً واحداً نحو اكتمال الحلم.
فالحلم الفلسطيني لا يموت، لأنه يُولد كل صباح من رمادٍ اسمه ” فتح”
ومن إرادةٍ لا تعرف الاستسلام، اسمها “فلسطين”.

إهداء:
إلى روح القائد الخالد ياسر عرفات،
الذي علّمنا أن الثورة ليست ضجيجاً بل ضوء،
وإلى سيادة الرئيس محمود عباس،
الذي أثبت أن الحلم لا يشيخ ما دام فينا إصرار العقول وصبر القلوب.
إليهما…
رفيقي الدرب، وصانعي الحلم،
منكما تعلمنا أن الوطن فكرة، وأن الفكرة حين تُروى بالوفاء لا تموت.
ستبقيان في الذاكرة كجناحين يرفرف بهما الوطن نحو سماء الحرية،
وفي التاريخ كعبارتين خالدتين:
الثورة التي بدأت، والدولة التي ستكتمل .