في كل زمن يتراجع فيه النقد والفكر الحر، تنبت الخرافة كالحشائش في أرض هجرتها الشمس، لتغطي حقول الوعي وتخنق الفضول، وتملأ النفوس بالطمأنينة الزائفة. وحين يغيب الفكر النقدي، تتسلل الخزعبلات إلى نسيج المجتمع في هيئة إيمان زائف، فيصبح الجهل دينًا يُتلى، والخرافة مذهبًا يُورّث، والجنون طقسًا جماعيًا تُقام له الاحتفالات والأضرحة. وقد لاحظ ميشيل فوكو في تحليله لعلاقة السلطة بالمعرفة، أن كل قمع للسؤال يفتح المجال لتسلط الخرافة على العقول والأرواح، فيصبح العقل رهينة للطقوس، والوعي أسيرًا للأوهام.
مدننا التي كانت تعرف بكرم أهلها ودفء قلوبهم تحولت إلى ساحات تُباع فيها الأوهام كالبضائع، وتقدس الخرافة باسم الدين، ويمنح الجهل صك البركة تحت عباءة الأولياء. الطقوس هنا لم تعد ممارسة روحية، بل وسيلة للهروب من مواجهة الواقع، وزيارة الأضرحة صارت نوعًا من التخلي عن المسؤولية الوجودية للإنسان تجاه ذاته ومصيره. فالإنسان الذي يسلم مصيره إلى الحجر أو الرموز لا يفكر يومًا في بناء صرح من الفكر، ويختزل قوته الداخلية في عبادة خارجية، ويحوّل الإيمان إلى حركة جسدية بلا يقظة عقلية.
الخرافة ليست مجرد فكرة باطلة، بل نظام اجتماعي متكامل، يرضي العاجزين عن الفهم، ويسكن قلق الوجود، ويمنح شعورًا زائفًا باليقين في عالم مضطرب ومجهول. خطرها الأعظم يكمن في أنها تلبي حاجة الإنسان إلى الأمان والمعنى، لكنها تمنحه ذلك بثمن فادح: تجميد العقل وتعطيل القدرة على التفكير الحر. وحين تروج السلطة ووسائل الإعلام هذه الممارسات باعتبارها تراثًا أو روحانية شعبية، فإنها لا تصون الهوية كما تدّعي، بل تعيد إنتاج العصور المظلمة في ثوب حديث، فتظل الأمة أسيرة الماضي بدل أن تكون صانعة المستقبل.
الاستسلام للخرافة حين يصبح جزءًا من الهوية الاجتماعية، لا يعود الجهل عيبًا، بل فضيلة مقدسة، يدافع عنها الناس كما يدافعون عن إيمانهم. فالجهل الذي يغذيه الخوف من السؤال، ويعيش على كسل الفكر، ويتكاثر حيث يُحاصر العقل ويُخدر الوعي، يتزين بثياب الدين والروحانية، ويتخفى خلف كلمات براقة مثل “الكرامة” و“البركة” و“السرّ”، ليضمن استمراره إلى ما لا نهاية. كما يذهب نيتشه في نقده للأخلاق والدين، فإن الجهل المقدس يشكّل قيدًا على الإرادة الحرة، ويحوّل الإنسان إلى عبد للطاعة والجمود.
مقاومة هذا التيار لا تتم بالوعظ أو المنع، بل بالتعليم والفكر الحر والفلسفة والفن، وبحرية السؤال. إن أول خطوة لمقاومة “الجهل المقدس” هي إعادة الاعتبار للعقل، والشجاعة في مواجهة السائد، ورفض التسليم الأعمى لما يُقال. التنوير ليس حربًا على الدين، بل حماية له من أن يُستغل وقودًا للجهل، ودفاعًا عن إنسانية الإنسان وقدرته على أن يرى بعينيه لا بعين الجماعة. حين يولد التنوير في العقول، تموت الخرافة، ويستعيد الفكر دوره في التمييز بين الدين والأسطورة، بين القداسة والوهم، فتتحرر المجتمعات من استبداد الطقوس وجمود الرموز.
في المجتمعات التي تُقصى فيها التفكير لصالح الطقوس، يصبح كل صوت للعقل خطيئة، وكل سؤال تهديدًا للنظام القائم. لكن الفلسفة، منذ سقراط وحتى كانت وهيغل، تعلمنا أن الحقيقة لا تخاف السؤال، وأن النور لا يختبئ عن العيون المفتوحة. آن للعقل العربي أن يخرج من دائرة القداسة الزائفة، أن يتحرر من عبادة الرموز والأضرحة، وأن يفهم أن الكرامة الحقيقية ليست خارقة للطبيعة، بل نابعة من الوعي نفسه. فالإنسان الذي يعبد القبور ميت في داخله، أما الذي يعبد النور فهو الذي يخلق الحياة من جديد.
الخرافة تُهزم بالتعليم، بالفكر، بالفن، وبالحرية. وحين تتعلم الأجيال أن تقدس السؤال لا الصمت، نبدأ بالانطلاق من ظلمة الجهل المقدس نحو شمس التنوير التي لا تغيب. آن لنا أن نعيد إحياء العقل، أن نسأل، ونفكر، ونشك، ونعلم أن السؤال ليس كفرًا بل ضرورة، وأن الطريق إلى الحقيقة لا يمهد بالخرافة بل بالعقل المستنير والفكر الواعي.
وأخيرًا، الأوطان لا تنهض بالأضرحة، بل بالمختبرات والعلم، ولا تُبنى بالكرامات، بل بالأفكار البنّاءة، فتكون الحضارة فعلًا مستمرًا للفكر والوعي، لا مجرد طقوس تُعاد وأوهام تُكرس، وطقوس تتوارثها الأجيال في غفلة من إدراك ماهية الحرية والمعرفة.
