عنوان هذه المقالة مقتبس من عنوان كتاب من تأليف الدكتور عمار علي حسن، الصادر في العام 2017 -المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، وقد لفت انتباهي في الكتاب المذكور الذي انتهيت من قراءته مؤخراً، أن المؤلف تناول موضوعاً جديداً، لم يسبق أن كتب حوله باستفاضة في عالمنا العربي، عدا مداخلات مقتضبة جاءت في سياق مواضيع ذات صلة بالخيال، حيث وفي كثير من الدراسات أُشبع الخيال الأدبي تحليلاً وبحثاً، وكذلك الحال بالنسبة إلى الخيال العلمي أو الخيال الاجتماعي، وظهرت دراسات أيضاً في الخيال النفسي.
تعامل المؤلف مع الخيال السياسي بوصفه منتجاً ثقافياً، لأنه يخضع في النهاية لقدرة الفرد على الإبداع وامكانية الخلق والابتكار، إضافةً إلى أن الخيال السياسي لا يمكن أن يتشكل ذهنياً ووجدانياً، بمعزلٍ عن ثقافة واسعة، مستمدة من معرفة جيدة بالعلوم الأخرى من اقتصاد وفلسفة وفيزياء وعلم نفس وأدب ومنطق…. ومن الضروري أن يتم التفاعل بين هذه العلوم في أُفق الثقافة الكلية للإنسان، ليكون قادراً على إطلاق خياله السياسي، لأننا نقصد هنا خيالاً معرفياً مبنياً على علم وليس على خزعبلات ودروشة.
إن السياسي المحترف إذا افتقد للخيال وظلَّ محكوماً لتكتيكات محدودة سيغرق في تفاصيل يومية تُعلّب عقله ومداركه، وتجعله محبوساً في حسابات اللحظة السياسية، بعيداً عن الاستشراف والرؤية القادرة على امتلاك إمكانية تصور ما يمكن تحقيقه في المستقبل.
لقد تسنى لقادة تاريخين تحقيق انتصارات جبارة على قوى محلية وعالمية، معتمدين على خيال سياسي مكنهم من إنجاز قراءة متخيلة على سبيل المثال لخارطة سياسية تم رسمها وتشكيلها في أفق الحلم.
لكن الخيال السياسي وحده لا يكفي وإلا يصبح فعلاً وجدانياً كقصيدة شعر، إذا لم يوظف آليات ووسائل تعمل مرحلياً على تحويل الخيال السياسي إلى واقع، ثم لينطلق الخيال مرة أخرى ، ليركز على أهداف بنائية جديدة يطوف بها في انتظار التحقيق.
إن الدول المتقدمة حققت كثيراً من الإنجازات وأحدثت قفزات كبيرة ونوعية في الاقتصاد والتكنولوجيا والرياضيات والكيمياء والفيزياء والعلوم الاجتماعية، لأن الخيال السياسي للنخب لم يتوقف على إنتاج الأهداف والرؤى في محاولة للوصول إلى ما هو أفضل، على اعتبار أنه إذا توقف الخيال، فإن عملية الحياة ستراوح في مكانها دون أن تتحرك إلى الأمام، فيما الخيال السياسي في عالمنا العربي ظلَّ محدوداً ومضغوطاً في قوالب آنية إذْ لم ير القسم الأكبر، ممن يمسكون بالسياسة والاقتصاد ما يحمله المستقبل، وظنوا أن حياة المواطن ستبقى رهينة لسياسات وإجراءات تضمن بقاء هذا المواطن محدودب الظهر تحت سقف منخفض ، لتنطلق احتجاجات وتحركات جماهرية، بالرغم من أن بعضها افتقر أيضاً للخيال السياسي حينما تم تحطيم المؤسسات وتدمير الجيش والشرطة وتخريب البنية التحتية، لتتقهقر بعض الدول إلى مرحلة ما قبل الدولة، فلا الخيال السياسي لحكامها السابقين نجح في قراءة استشرافية لواقع مجتمعاتهم، ولا من أعلنوا أنهم سيفرشون “ربيعهم” على طول الوطن وعرضه استطاعوا أن يجعلوه ربيعاً حقيقياً، لأن اليباس دهم تجارب معينة مبكرا.
ومعلوم أن الخيال السياسي للقادة والمفكرين لا ينجح دائماً في تحقيق الحلم، حيث إن عبد الناصر بمشروعه القومي والتنموي والوحدوي العربي، قد أظهر خياله السياسي الخصب، بيد أن الأدوات التي استخدمت لم تكن مناسبة لترجمة الخيال إلى واقع، كإسناد مهمات حساسة لقادة عسكريين وسياسيين فشلوا في الامتحان الصعب في الخامس من حزيران 1967إضافة إلى عوامل أخرى داخلية وخارجية، تسببت في هزيمة عسكرية، كان لها تداعيات سلبية على مجمل المشروع القومي، إلا أن ذلك لا ينفي أبداً أن عبد الناصر تمتع بخيال سياسي هو وليد حلم ورؤية استشرافية بعيدة المدى.
إن الخيال السياسي يتطلب وجود ذوي قدرات تحليلية عميقة ورؤى استراتيجية لنخب قيادية تؤمن بالعلم وتسعى للتغيير بالانسجام مع روح العصر، بمعنى أن الخيال السياسي معدوم تماماً عند الذين يحاولون استصدار نسخ كربونية لتجارب قديمة بل موغلة في القدم.
وأخيراً إذا كان الخيال السياسي مطلوباً وضرورياً للقادة فإن الدكتور عمار علي حسن لا يقصر الخيال عليهم فقط، وإنما يحث المواطن العادي على إعمال خياله السياسي قبل اتخاذ قرارات تتعلق بالسلطة، فإذا شارك في انتخابات برلمانية أو رئاسية، ولم يكن له انتماء حزبي، فعليه أن يتخيل سياسياً ولو قليلاً شيئاً مما يمكن أن يفعله أحد المتنافسين ليتم التفضيل والاختيار.
فالخيال السياسي يخدم في القضايا الاستراتيجية على صعيد القادة، وفي مسائل أصغر وربما محدودة تمكن المواطن العادي من رؤية ما يتوقعه في الغد إزاء ما يرتبط بحياته ومستقبله.
