الدروشة الإعلامية: كيف تهدد تبعية الإعلام الجزائري لوسائل التواصل الاجتماعي مصالح البلاد العليا؟

بن معمر الحاج عيسى

في مشهد يكرّس أزمة الهوية التي يعيشها الإعلام الجزائري، تحوّلت منصات التواصل الاجتماعي من مجرد فضاءات افتراضية إلى مُحرّك رئيسي لصناعة الرأي العام، بل وإلى دليلٍ تسترشد به وسائل الإعلام التقليدية في تعاطيها مع قضايا مصيرية تمسّ أمن البلاد وعلاقاتها الدولية. قصة الوسم “#تبون_لا_تذهب_الى_العراق” ليست مجرد هاشتاغ عابر، بل نموذج صارخ لانقياد الإعلام الرسمي وراء سرديات غير مسؤولة، تهدد بتعقيد العلاقات مع دول عربية شقيقة، وتُظهر تنازلاً مريبًا عن الدور الأساسي للإعلام في حماية المصالح العليا للدولة.

البداية كانت مع دعوة رسمية تلقاها الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون من نظيره العراقي عبداللطيف رشيد للمشاركة في القمة العربية المقبلة ببغداد. لكن ما كان ينبغي أن يكون حدثًا دبلوماسيًا روتينيًا تحوّل إلى فوضى إعلامية، بعد أن تبنّت وسائل إعلام جزائرية -رسمية وخاصة- الهاشتاغ المُعارض للزيارة، مستندةً إلى حجج واهية تعيد إحياء أحداث تاريخية مثل مرض الرئيس الراحل هواري بومدين خلال زيارته للعراق عام 1978، أو اغتيال الوزير محمد الصديق بن يحيى في 1982. هذا الاستدعاء الانتقائي للتاريخ يتجاهل حقيقة أن السياقات الأمنية والسياسية الحالية تختلف جذريًا، وأن استخدامها لتبرير رفض زيارةٍ دبلوماسية يشبه “الدروشة” – تلك الحالة من الهياج غير المبرر – التي تخلط بين الماضي والحاضر، وتُحوّل الإعلام من منصة للتحليل الموضوعي إلى أداة للتهويل العشوائي.

الأخطر في هذا المشهد هو الانزياح الخطير عن المهنّية الإعلامية. فبدلًا من تحليل دوافع الدعوة العراقية، أو تقييم انعكاسات المشاركة الجزائرية على العلاقات الثنائية، انجرفت المؤسسات الإعلامية إلى تبني خطابٍ استثماري، يختزل قضيةً دبلوماسية معقدة في سجالٍ افتراضي، لا يراعي حساسية الموقف العراقي الذي يسعى إلى إعادة تموضع نفسه إقليميًا عبر استضافة القمة. لقد تجاهل الإعلام الجزائري أن الترويج لفكرة “العراق غير الآمن” ليس مجرد رأيٍ شخصي، بل قد يُفهم كرسالةٍ رسمية تُسيء إلى دولةٍ عربية تسعى لطي صفحة الماضي، وهو ما قد يفتح الباب لردود فعل عراقية تصل إلى مستوى الاحتجاج الرسمي، أو حربٍ إعلامية مكلفة.

هذه الحالة ليست معزولة، بل تتويجًا لمسارٍ طويل من الاستسلام التدريجي للإعلام الرسمي لسطوة المنصات الرقمية. فقبل أشهر، حذّر جهاز الاستخبارات الجزائري في ندوة خاصة من مخاطر المعلومات المضللة في تأجيج الأزمات، كما حاول وزير الاتصال محمد مزيان مرارًا لفت انتباه النخبة الإعلامية إلى ضرورة التمييز بين “التفاعل” مع trending topics و”التبني” الأعمى لمضامينها. لكن التحذيرات تبدو كصرخة في وادٍ، في ظل استمرار إعلامٍ يتبارى في استنساخ الإثارة الرقمية، حتى لو كان الثمن هو التضحية بسمعة البلاد، أو تعريض تحالفاتها للاهتزاز.

المفارقة الكبرى تكمن في أن هذا الانزلاق يأتي في وقتٍ تشتدّ فيه الحاجة إلى جبهة إعلامية وطنية متماسكة. فقبل أشهر، علّقت السلطات صحيفةً جزائرية لنشرها أخبارًا عن مخطط مزعوم لاغتيال الرئيس تبون، وهو قرارٌ يُظهر وعيًا بمخاطر التهويل الإعلامي. لكن اليوم، يُسمح لوسائل إعلام أخرى بتكرار نفس النهج التخويني تحت غطاء “التفاعل مع الرأي العام”، مما يؤكد ازدواجية المعايير، ويُربك الرسالة الإعلامية للدولة.

لا يمكن فصل هذه الأزمة عن الإشكالية البنيوية التي يعانيها الإعلام الجزائري، حيث غياب الاستراتيجية الواضحة يدفعه إلى التموضع في منطقة رمادية بين التبعية الرسمية والانسياق وراء الإثارة الشعبوية. صحيح أن الخطأ البروتوكولي العراقي في إرسال الدعوة عبر قائم بالأعمال بدلًا من مبعوث رفيع – خلافًا لما فعلته الجزائر سابقًا عند إرسالها وزير العدل لليدعوة العراقية لقمة 2022 – كان ثغرةً دبلوماسية، لكن هذا لا يبرر تحويل الهفوة إلى أزمةٍ إعلامية، خاصةً أن قرار المشاركة من عدمه يخضع لاعتبارات سياسية وأمنية معقدة، لا علاقة لها بضجّة الوسم العابرة.

في الخلفية، تُطلّ قضيةٌ أكبر: تحوّل الإعلام من أداةٍ لبناء الوعي الجمعي إلى منصةٍ لتضخيم الهواجس. فحين تتحول الصحافة إلى صدى للشارع الافتراضي، بدلًا من أن تكون مرآةً نقدية له، تفقد الدولة أحد أهم أدواتها في تشكيل الرواية الوطنية، وتصبح العلاقات الخارجية رهينةً لتقلبات “الترندات”. السؤال الذي يُطرَح اليوم بإلحاح: هل يمكن بناء سياسة خارجية مستقرة بإعلامٍ يرفض تمييز الخط الأحمر بين الحرية والفوضى؟ الجواب يبدو واضحًا في مشهد الوسم العراقي: كلما استمرت “الدروشة الإعلامية”، كلما اقتربت الجزائر من تحويل أصدقائها إلى خصوم بأيدٍ ليست أيديهم.