تطوّرت فكرة الديمقراطية منذ العهد اليوناني القديم حتى عصرنا الحالي، وبدأت تأخذ أبعاداً جديدة تبعاً للظروف والمستجدات في مختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العالم. ففي حديثنا عن (الديمقراطية democracy)، باليونانية (δημοκρατία dēmokratía)، في عهدها اليوناني، تجسّد معناها في حكم الشعب، وتُعدّ شكلاً من أشكال الحكم التي يشارك فيها جميع مواطني الدولة المؤهّلين بالتساوي ودون تفرقة، إمّا مباشرة، أو من خلال ممثلين يتم انتخابهم عن طريق صناديق الاقتراع، والتي تعمل على تطوير واستحداث القوانين والتشريعات الناظمة للقضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تمكّن المواطنين من ممارسة الحرّيات بصورة متساوية دون تمييز، لتقرير مصيرهم السياسي. وهي، في نهاية المطاف، تعبير عن نظام الحكم في دولة ديمقراطية، يصف ثقافة المجتمع؛ ثقافةً سياسيّةً وأخلاقية لها تجلّياتها الخاصة، من أهمها وجود مفاهيم تتعلق بضرورة تداول السلطة سلمياً وبصورة دورية.
كان هذا المفهوم قد نشأ في أثينا اليونانية قديماً كما بيّنا آنفاً، أما الآن فقد نشأ ما بات يُعرَف بـ “الديمقراطية الجديدة” أو “الثورة الديمقراطية الجديدة”، وهو مفهوم يستند إلى مستوى القضايا الاجتماعية، كما يستند إلى نظرية الطبقات الاجتماعية الأربع التي ابتكرها مؤسس جمهورية الصين الشعبية، الرئيس الصيني الراحل ماو تسي تونغ (Mao Zedong) (1893 ـ 1976 م)، الذي شكّلت أفكاره ما بات يُعرَف بالماوية. وكان له الفضل في إطلاق هذا المفهوم بعد الثورة الصينية، والتي زعمت في الأساس أنَّ الديمقراطية في جمهورية الصين الشعبية سوف تسلك مساراً خاصاً ومميَّزاً بشكلٍ حاسم عن أيّ دولة أخرى في العالم.
تلك المفاهيم يمكن أن تُتبنّى في أي بلد من بلدان العالم الثالث، بحيث تكون له طريقته الخاصة والفريدة نحو الديمقراطية وممارستها، نظراً للظروف الاجتماعية والثقافية والمادية والاقتصادية الخاصة. وقد وصف ماو تسي تونغ الديمقراطية التمثيلية في الدول الغربية بأنها ديمقراطية قديمة قِدَم الحضارة اليونانية، ووصف النظام البرلماني الغربي بأنه مجرّد أداة لتعزيز ديكتاتورية الطبقة البرجوازية التي تمتلك رؤوس الأموال والمهن والحرف، ولديها القدرة على الإنتاج والسيطرة على المجتمع ومؤسسات الدولة من خلال السيطرة على الصناعات التحويلية. كما وجد ماو تسي تونغ أن مفهومه للديمقراطية الجديدة يتعارض مع ديكتاتورية النمط السوفييتي السابق للطبقة العاملة، الذي افترض أنها ستكون البنية السياسية والثقافية المهيمنة في عالم ما بعد الرأسمالية.
إنَّ أفكار الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ كانت تهدف إلى خلق دولة صينية جديدة، دولة تتحرّر بالكامل من الجوانب الإقطاعية وشبه الإقطاعية، ومن ملكية الأراضي التي هيمنت على الثقافة القديمة، فضلاً عن الانفكاك من الإمبريالية اليابانية التي طغت بشكل غير مسبوق.
إنَّ مفهوم الديمقراطية الجديدة يهدف إلى الإطاحة بالإقطاع وسلطته، وتحقيق الاستقلال عن الاستعمار، إلّا أنّه يتعارض مع ما تنبّأ به الفيلسوف والمؤرخ وعالم الاقتصاد الألماني كارل ماركس (Karl Marx) (1818 ـ 1883 م) من أنّ الطبقة الرأسمالية سوف تتبع مثل هذا الصراع عادةً. هذا الزعم يدعو بدلاً من ذلك إلى السعي للدخول مباشرة إلى المنظومة الاشتراكية عبر تحالف الطبقات الاجتماعية التي تحارب النظام الحاكم القديم. وهذا التحالف يوضع تحت قيادة الطبقة العاملة وأحزابها الشيوعية، وتعمل مع الشيوعيين، بغض النظر عن اختلاف مناهجهم وإيديولوجياتهم، من أجل تحقيق الهدف المباشر الأول المتمثل في «نظام ديمقراطي جديد».
وفي حقيقة الأمر، كان هذا الرأي يتشاركه قائد الحزب البلشفي والثورة البلشفية فلاديمير إلييتش أوليانوف المعروف بـ (لينين) (1870 ـ 1924 م)، الذي انشقّ عن أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي بسبب فكرته بأنَّ الطبقة العاملة قادرة على تنظيم وقيادة الثورة الديمقراطية في بلد متخلّف اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً مثل روسيا، حيث الظروف الموضوعية للاشتراكية لم تكن موجودة بعد. وكان الشيوعيون الصينيون حينها يأملون بأن تتمكن الطبقة العاملة بطريقة مشابهة من تحقيق بناء اشتراكية وشيوعية كاملة النضج.
في سياق مشابه، هناك خطرٌ كبير يُهدِّد الديمقراطية بمفهومها العصري الحديث، وخطرٌ أكبر يهدِّد الأخلاق الإنسانية العامة ومستقبل البشرية جمعاء، من جراء المبالغة في تفسير المبادئ الديمقراطية أو استخدام بعض جوانبها لتحقيق أغراض تتنافى مع أهدافها الجوهرية. ذلك أن الهدف الأساسي من ممارسة الديمقراطية ـ أو الشورى ـ هو التعبير عن إرادة المواطنين وطموحاتهم، وعدم فرض ما يتعارض مع رأي الغالبية، وصناعة لوائح وقوانين تشريعية تُحقّق المصلحة العامة والأمن والاستقرار المشترك، ضمن ضوابط ولوائح حدّدتها العقود الوطنية التأسيسية في معظم دول العالم، وأشارت إليها الشرائع السماوية. وقد أشارت العديد من الدساتير في مقدماتها إلى الإجلال لله، ومنها ما حدّد ديانة الدولة، وهذا الأمر يفرض على القانونيين والمشرّعين المنتخبين الركون إلى القيم والمبادئ المتفق عليها من الأغلبية الشعبية.
لقد تم التأكيد على أن بعض الأعمال التشريعية والقانونية في عدد من الدول الغربية قد خرجت عن الإطار العام المتعارف عليه منذ مئات السنين لدى البشرية جمعاء بحجة التطور والتقدم، ومنها محاولة إنتاج مفاهيم جديدة للتخلص أو الهروب من الاعتقاد الراسخ بأن الله خلق الناس من ذكرٍ وأنثى، وأن الأديان السماوية الثلاث ـ اليهودية والمسيحية والإسلام ـ أشارت إلى هذه الحقيقة بوضوح. وهذه الأديان لم تتنكر أبداً لأي نفس بشرية خلقها الله بخصائص خاصة أو حالات فردية؛ ولهؤلاء الحق في الحياة والرعاية الاجتماعية والاقتصادية كما لغيرهم. لكن الزواج، كعملية إنسانية واجتماعية، يُعَدّ سرّاً مقدّساً بين المرأة والرجل حصراً في الديانة المسيحية، ولا يتم في الإسلام إلا بين رجل وامرأة. وتشريع زواج المثليين يُعدّ تجاوزاً لحدود الصلاحية وفقاً لفلسفة القانون، التي تسعى للإجابة عن أسئلة تتعلق بالعلاقة بين القانون والأخلاق.
وقد وضع الفيلسوف البريطاني جون لانغشو أوستن (John Langshaw Austin) نظرية تُعرف بـ “نظرية الأمر” (the command theory of law). وقد قسّم فيها القانون إلى: موسَّع ومُضيَّق؛ فالموسَّع ينقسم إلى قانون باعتبار المجاز، وقانون باعتبار القياس، أما المُضيَّق فينقسم إلى قانون إنساني، وقانون إلهي.
إنّ تشريع المثلية هو قوننة لما هو خارج الطبيعة الآدمية التي فطر الله الإنسان عليها، ويُعد خروجاً عن حدود السلطة، وهذه السلطة لا يمكن أن تكون مطلقة أو مجردة من القيود، وإلا فما الذي يمنع ـ على سبيل المثال ـ تشريع القتل إذا ما انحرفت الأكثرية لأي سبب؟
يقول المفكر والفيلسوف الأمريكي مايكل والزر (Michael Walzer): “لا يجوز اعتبار كل ما يُشرَّع بقانون حقاً”.
أما النظرية التي وضعها المفكر الفلورنسي نيكولو دي برناردو دي ماكيافيللي (Niccolò Machiavelli) (1469 ـ 1527 م)، فلم تصل إلى حدّ تبرير اعتماد أي وسيلة للوصول إلى الهدف المنشود، بل دعا إلى ممارسة البراغماتية ضمن حدود الالتزام بالأخلاق العامة، وتجنّب تدمير التراكم الحضاري والإنساني. حتى الأفكار التي اعتمدها القياصرة الروس قبل عام 1917 م، وشعارهم: “ما هو مصلحة للقيصر، هو مصلحة للدولة”، لم تتجاوز حدود الكرامة الإنسانية، فقد فرّقوا بين ما لله وما للقيصر، كما ورد في الإنجيل المقدّس: “أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله” (مرقس 12: 12 ـ 17).
ويتفق فقهاء العلوم السياسية على أنه لا يمكن قيادة الناس وتوجيههم باتجاه إيجابي وحفظ مصالحهم دون الالتزام بمعايير الأخلاق. فالأخلاق في السياسة تشمل أخلاقيات المنصب وأخلاقيات السياسة العامة التي تتعلق بالقوانين، إضافة إلى النزاهة والإخلاص والاستقامة للمصلحة العامة، واللياقة والصراحة والتجرّد. ولا يمكن إنكار أن بعض جوانب الممارسات الديمقراطية الحديثة، وبعض التصرفات الأوليغارشية (حكم الأقلية)، قد دمّرت الفكرة، وتحوّلت مهنة بعض السياسيين إلى ما يشبه المقاولة القادرة على التعهد بالقيام بأي عمل، بما في ذلك ما يتعارض مع القيم الأخلاقية.
لا يمكن إنكار أن الديمقراطية الحديثة (Modern democracy)، التي ظهرت مع الجمهورية الهلفيتية بين عامي 1798 و1803 م، وأسّست لاستقرار سياسي في العديد من الدول، لا سيما الغربية منها، قد ساهمت في إغناء الحياة البشرية من خلال تطوير الأنظمة والقوانين وتشجيع الابتكارات العلمية والثقافية والمعرفية. وفي المقابل، لا يمكن التسليم بأن النظم السياسية والمؤسسات الدستورية المعتمدة على المقاربات الديمقراطية الحديثة والمعاصرة قادرة على التعامل مع كل ظواهر الحياة البشرية وتفاعلاتها، أو أنها قادرة على تحدي الطبيعة وقوانينها.
إنّ ما يمكن التسليم به في إطار الملفات السياسية والاقتصادية لا ينطبق على أسرار الطبيعة وقواها الكامنة، التي ما زالت عصيّة على المعرفة الإنسانية رغم التقدم الهائل. وإنّ التغوّل في أعماق أسرار الكون قد يكون أكثر إنهاكاً مما يتصوّره الكثيرون. وفكرة المادية التاريخية التي أسّس لها كارل ماركس منذ منتصف القرن التاسع عشر أخفقت في الاستمرار طويلاً، وقد ترنّحت مع سقوط الاتحاد السوفييتي السابق عام 1990 م.
إنّ الحفاظ على الطبيعة بكل مكوّناتها ليس مطلباً دينياً صرفاً، كما يظنّ بعض المتمسّكين بنظرية “الحرية بلا حدود” (Freedom without limits)، بل هو ضرورة إنسانية شاملة. فـ”تجاوز حدود الطبيعة” (Nature limits)، وابتكار تسميات جديدة للمخلوقات البشرية، مغامرة قد تهدّد مستقبل البشرية، وقد تنقلب رأساً على عقب على المطالبين بها قبل غيرهم.







