الديمقراطية بين المثال والواقع: انزياحات المفهوم وتحوّلات المعنى

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

لطالما قُدّمت الديمقراطية بوصفها التتويج الأعلى لنضال الإنسان من أجل الحرية والمساواة والكرامة، وظلّت لعقود مرادفًا لقيم الحداثة والتقدم وركيزة أساسية لمشروع بناء الدولة الحديثة. غير أن هذا المفهوم، الذي يبدو في ظاهره بسيطًا ومباشرًا، لم يَسلم من الانزياح والتبدّل عبر الزمان والمكان، بفعل التحولات السياسية والاقتصادية الكبرى، وتنامي مصالح النخب، وهيمنة الخطاب الليبرالي العالمي.
في هذا المقال، تسلّط الكاتبة عفاف عمورة الضوء على تعقيدات مدلول “الديمقراطية” كما تطوّر في الفكر والممارسة الدولية، خصوصًا في ظلّ احتكار بعض النماذج الغربية لتمثيله وترويجه، وتُعيد طرح الأسئلة الجوهرية: هل ما زالت الديمقراطية تُجسّد إرادة الشعوب؟ أم أنها باتت غلافًا ناعمًا يُخفي تحالف النخب الاقتصادية والسياسية في إدارة المصالح الكبرى؟ وهل ما زال من المجدي التمسك بتعريف كلاسيكي للديمقراطية، في عالم تتبدّل فيه ملامح السلطة والتمثيل وتتشظّى فيه المفاهيم؟
انزياحات الديمقراطية نحو مدلول جديد
تُعتبر الديمقراطية إحدى القيم الأساسية لهيئة الأمم المتحدة، التي تدعمها من خلال تعزيز حقوق الإنسان والتنمية والسلام والأمن. وخلال خمسة وسبعين عامًا منذ توقيع ميثاق الأمم المتحدة، بذلت هذه المنظمة جهودًا كبيرة لدعم الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم، أكثر من أي منظمة دولية أخرى. لذلك، تعزّز الأمم المتحدة الحكم الرشيد، وتراقب الانتخابات على مستوياتها كافة، وتساعد في صياغة دساتير جديدة في الدول الخارجة من النزاعات، كما تدعم المجتمع المدني لتقوية المؤسسات الديمقراطية وهيئاتها، وتكفل تقرير المصير للشعوب التي نالت استقلالها بعد الاستعمار.
لكن، رغم كل هذا الزخم، لا يزال مفهوم الديمقراطية محطّ جدل واسع في العلوم السياسية والاجتماعية، إذ يصعب الإمساك بتعريف محدد له خارج سياق الدولة والنظام القائم فيها. فبينما بقي التعريف اليوناني الكلاسيكي—”حكم الشعب”—أساسًا متداولًا في الأدبيات السياسية، إلا أن هذا المفهوم شهد انزياحات حادّة منذ بدايات القرن العشرين، مع صعود الرأسمالية وتكريس الليبرالية، حيث بات يرتبط أساسًا بنظام الحكم التمثيلي والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع.
عند تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، لم يُدرَج مصطلح “الديمقراطية” صراحة في ميثاقها، لأن كثيرًا من الدول المؤسسة لم تكن تتبنى هذا النظام فعليًا. ومع ذلك، فإن العبارة الافتتاحية “نحن الشعوب” تعكس المبدأ الديمقراطي الجوهري: أن إرادة الشعب هي مصدر شرعية الدولة.
ولا تدافع الأمم المتحدة عن نموذج حكومي محدد، لكنها تروّج للحكم الديمقراطي بوصفه مجموعة من القيم التي تكفل المشاركة الشعبية، والمساواة، وضمان الحريات الأساسية، مثل حرية الرأي، والتجمع، وتكوين الجمعيات، والمساءلة السياسية، وحقوق المرأة في التصويت والترشح، كما نصّت على ذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
غير أن هذه المبادئ، برغم طابعها العالمي، تبقى عرضة للتأويل السياسي والانتقائية في التطبيق. فعديد من الحكومات حول العالم تدّعي تمثيل إرادة شعوبها، دون أن تستوفي شروط الانتخابات النزيهة أو الممارسات الديمقراطية الفعلية. وغالبًا ما تُربَط الديمقراطية بالنموذج الغربي الليبرالي، حيث تُعتبَر التجربة الأوروبية والأمريكية مرجعًا، رغم تعرّضها لأزمات كبرى في التاريخ الحديث، خصوصًا ما سبق الحرب العالمية الثانية.
ففي الوقت الذي نجحت فيه هذه التجارب في ترسيخ مبدأ الانتقال السلمي للسلطة ومنع عودة الأنظمة الفاشية، إلا أن الديمقراطية الغربية التمثيلية لم تَخلُ من التناقضات، أبرزها تحوّلها في كثير من الأحيان إلى حكم النخب بدل حكم الشعوب.
فالتمثيل النيابي لا يضمن بالضرورة تمثيلًا حقيقيًا لإرادة الناس. ففي الولايات المتحدة مثلًا، تكشف الأرقام عن تزايد نفوذ المال السياسي؛ حيث وصلت تكلفة الانتخابات الرئاسية عام 2020 إلى عشرة مليارات دولار، ممولة في جزء كبير منها من الأثرياء الذين يسعون لحماية مصالحهم، مما يُحوّل الديمقراطية إلى أداة لصيانة النظام الرأسمالي، لا إلى وسيلة لتداول السلطة بين مختلف فئات الشعب.
وإذا كان هذا النموذج قد أثمر مساواة قانونية واحترامًا للحريات في ظاهره، إلا أنه في الجوهر أضحى نوعًا من التعاقد بين النخب الاقتصادية والإعلامية والسياسية لإدارة مصالحها عبر آلية انتخابية، تُفرَغ تدريجيًا من مضمونها الشعبي.
لقد بات ضرورياً إعادة التفكير في مفهوم الديمقراطية، ليس بوصفها مجرد آلية انتخابية، بل بوصفها منظومة حكم تشمل العدالة الاجتماعية، والتمثيل الحقيقي، وتكافؤ الفرص. فالديمقراطية التي تُستخدم لضبط التفاوت الطبقي بدلًا من تقليصه، ولتجميل هيمنة النخب بدلًا من مساءلتها، تحتاج إلى مراجعة جذرية في ضوء الانزياحات الحاصلة عالميًا.