ثمة في أعماق الإنسان منطقةٌ غائرة من الصمت، لا يصلها ضوء الاعتراف، ولا تقترب منها حرارة العاطفة. هناك، في تلك الزاوية البعيدة، يولد “نمط التعلّق المتجنّب” كآلية دفاعية ضد الخذلان، وكدرعٍ نفسي يرفعها المرء بوجه العالم خشية التورّط في الألم. إنه الكائن الذي يختار العزلة لا حبًا في الوحدة، بل هربًا من احتمالات الفقد، ويُعلن اكتفاءه لا لأنّه مكتفٍ، بل لأنه لم يجد صدرًا آمنًا يودِع فيه هشاشته الأولى.
من منظور التحليل النفسي، يُعدّ هذا النمط أحد أكثر مظاهر التناقض الوجداني عمقًا: فهو يتوق إلى القرب بقدر ما يخشاه، ويبحث عن الأمان بقدر ما يرفض وسائطه. وكما أشار جون بولبي، رائد نظرية التعلّق، فإنّ الطفل الذي لم يتلقَّ في طفولته استجابة دافئة لمطالبه العاطفية، يتعلم لاحقًا أن الحبّ مساحة خطر، وأنّ الأمان لا يُطلب من أحد. فيكبر وهو يُخفي حاجته للآخرين خلف قناعٍ من البرود، يُشبه — كما وصفه إريك فروم — الإنسان الذي “يستبدل الحميمية بالوظيفة، والعلاقة بالإنجاز”.
إنّ التعلّق المتجنّب ليس انقطاعًا عن العالم بقدر ما هو انقطاع عن الذات. إنه كبتٌ عميق لنداءات القلب باسم “العقلانية” و”الاستقلال”، حتى تتحول الحرية إلى عزلةٍ متكلّسة. في ظاهره اتزانٌ وسيطرة، وفي باطنه فوضى من الاحتياجات غير المعترف بها. هذه المفارقة تجعل صاحبه أسيرًا لصورةٍ مثالية عن ذاته، يخشى أن تهتزّ لحظة الاعتراف بضعفه. كما قال سقراط: “من لم يعرف ضعفه، لن يعرف نفسه.”
يعيش المتجنّب في منفى داخلي، لا جدران له سوى الخوف من الانكشاف. وحين يقترب أحدٌ منه، يراه خطرًا على توازنه الواهم، فينسحب بخطوات هادئة، تاركًا خلفه صمتًا يبرّره بأنه “راحة”، بينما هو في حقيقته نزيف مؤجل. فالعلاقات بالنسبة له مرايا مرعبة، تكشف ما حاول طمره من رغباتٍ قديمة لم تُشبع، ومن حبٍّ لم يُستقبل يومًا بطمأنينة.
على المستوى الاجتماعي، يمكن اعتبار هذا النمط انعكاسًا لعصرٍ يُمجد الفردية حتى حدود القطيعة. إنّ ثقافة الاستقلال المفرط، التي تتغذّى من أنماط الحياة الحديثة، تُنتج أفرادًا قادرين على العمل بلا توقف، لكنهم عاجزون عن الحبّ بلا شروط. كما يشير المفكر زيغمونت باومان في كتابه الحداثة السائلة: “لقد أصبحت العلاقات هشّة كالبضائع، تُستهلك بسرعة وتُستبدل بسهولة، لأنّ الخوف من الارتباط صار خوفًا من الفقد، لا من الآخر.”
أما على الصعيد الأخلاقي، فإنّ المتجنّب يعيش مأزقًا وجوديًا بين فضيلتين متعارضتين: الصدق والنجاة. الصدق يقتضي منه أن يعترف بحاجته إلى الحبّ، والنجاة تفرض عليه أن يخفيها. وهكذا يبقى في دائرةٍ مغلقة من التناقض الأخلاقي: يريد أن يُحَبّ دون أن يُمسّ، وأن يُفهَم دون أن يتكلم، وأن يعيش العلاقات من دون أن يخوضها. إنه نموذج الإنسان الذي تاه بين الاعتراف الوجودي والإنكار الدفاعي، بين الرغبة في التماس والرهبة من الالتصاق.
إنّ العلاج لا يبدأ من التخلّي عن هذا النمط، بل من الاعتراف به بوصفه نداءً خفيًا إلى الذات الجريحة. فكما يقول كارل يونغ، “ما لا نعيه يتحكم فينا وكأنّه قدر”. حين يعي المتجنّب أنّ تجنّبه ليس حريةً بل سجنٌ من صنع ذاكرته، يبدأ الانفراج: إذ يتصالح مع حاجته، ويمنح لنفسه الحقّ في الضعف، فيكتشف أن الحبّ لا يُنقص من الكرامة، بل يمنحها معنى إنسانيًا عميقًا.
في النهاية، إنّ نمط التعلّق المتجنّب هو مرآة عصرنا الحديث، عصرٍ تتكاثر فيه وسائل الاتصال وتندر فيه اللقاءات الحقيقية، يختبئ فيه الأفراد خلف الشاشات كما يختبئون خلف أقنعتهم النفسية. وإذا كان الغراب في المثل العربي لا يلتقط إلا أصلب التمر، فإنّ الإنسان المتجنّب لا يلتقط إلا أصلب العواطف، تلك التي لا تُخيفه، ولا تُذكّره بطفولته، ولا تجرّده من أقنعته.
لكن الحقيقة تظلّ كما عبّر عنها غابرييل مارسل: “الوجود لا يتحقق إلا في المشاركة.” فالهروب من التعلّق ليس حرية، بل فقدان للإنسانية. ومن لا يجرؤ على القرب، سيبقى أسير المسافة، يلمس الحياة من بعيد، ولا يعيشها أبدًا.
——————
موقع السياسي
عماد خالد رحمة – كاتب ومفكر عربي مقيم في برلين، يهتم بقضايا النهضة، والفكر النقدي، والعلاقة بين الوعي الجمعي والتحوّلات الثقافية في العالم العربي. يكتب بلغة تحليلية تتقاطع فيها الفلسفة مع الاجتماع والفكر الإنساني، باحثًا عن جذور الأزمات الحضارية وآفاق التغيير الممكن.