الرقص السياسي العربي على حافة الشفرة:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

 

إنّ السياسة العربية، في معظم تجلياتها المعاصرة، تبدو وكأنها رقصة متهوّرة على حافة شفرة حادّة؛ رقصةٌ لا تُبنى على إيقاعٍ مدروس، بل على ارتجالٍ يحكمه الخوف من السقوط أكثر مما يحكمه الأمل بالعبور. فالأنظمة، ومعها القوى الفاعلة في الساحة السياسية، تتعامل مع السلطة كما يتعامل الراقص مع السيف: انجذابٌ للمخاطرة، مع وعيٍ دائم بأن أي انزلاق قد يقطع الجسد أو يريق الدم.
يُذكّر هذا المشهد بما أشار إليه الفيلسوف ميشيل فوكو حين اعتبر أن السلطة ليست مجرد أداة قمع، بل شبكة دقيقة من العلاقات التي تحاصر الفرد والمجتمع معاً. في العالم العربي، تُصبح هذه الشبكة أكثر توتراً لأنها تُمارس الرقص فوق فراغٍ سحيق؛ فلا المؤسسات متينة بما يكفي لحماية الاستقرار، ولا الثقافة السياسية قد نضجت لتوازن بين الحرية والمسؤولية.
إنّ هذا “الرقص على حافة الشفرة” ليس تعبيراً بلاغياً فحسب، بل توصيفٌ دقيق لحالة التوتر الدائم بين الشعوب والأنظمة، بين الطموحات الوطنية والمصالح الخارجية. لقد وصف المفكر عبد الرحمن منيف السياسة العربية بأنها “عالمٌ من المراوغات والكمائن”، وهو وصفٌ يختزل تلك الحركات المرتبكة التي تتراوح بين المناورة والانحناء، بين ادعاء السيادة والانخراط في التبعية.
في المقابل، يرى أنطونيو غرامشي أن السياسة الحقيقية تحتاج إلى “هيمنة ثقافية” تسبق السيطرة المادية، أي إلى بناء وعي جمعي قادر على فهم اللحظة التاريخية. إلا أنّ العالم العربي غالباً ما استبدل الوعي بالخطابة، وحوّل المواطن إلى مجرد متفرّج على رقصة خطيرة تُؤدى باسمه دون أن يُستشار في إيقاعها أو نهايتها.
أما إدوارد سعيد فقد نبه إلى أنّ السياسة العربية – خصوصاً في لحظات الصراع مع الغرب – تظل أسيرة صورة الآخر أكثر مما هي أسيرة مشروعها الداخلي، وكأنّ الراقص يرقص لعيون الجمهور الخارجي لا لحرية جسده الداخلية. وهذا ما يجعل الحركات السياسية العربية مشدودة بين الخارج والداخل، بين الاسترضاء والتصعيد، فتفقد توازنها في منتصف الرقصة.
من جهة أخرى، تُذكّرنا التجربة السياسية لكبار الساسة العرب – جمال عبد الناصر مثلاً – بأن الرقص على الشفرة قد يمنح وهجاً كارزمياً، لكنه قد ينتهي بانكسار مأساوي حين تغيب الاستراتيجية طويلة المدى. فالقومية العربية مثّلت رقصة كبرى على شفرة التاريخ، ألهبت الجماهير زمناً، ثم تكسّرت على صخرة الهزائم.
ولعلّ المفكر المغربي محمد عابد الجابري يُضيء جانباً من هذا المأزق حين تحدث عن “العقل السياسي العربي” الذي لا يزال أسير البُنى التقليدية للعصبية والقبيلة والغنيمة، ما يجعله عاجزاً عن بناء عقد اجتماعي متماسك، فيظل متأرجحاً بين الشرعية الرمزية والشرعية المفروضة.
إنّ السياسة العربية، إذن، تشبه راقصاً يجازف بحياته في كل خطوة: إن اقترب أكثر من الشفرة نزف، وإن ابتعد كثيراً فقد الإيقاع. والمطلوب – كما علّمنا جون ديوي في فلسفته البراغماتية – أن تتحول السياسة من استعراضٍ على حافة الموت إلى تجربةٍ مشتركة لصنع المستقبل، تجربة تُوازن بين الإبداع والحذر، بين الطموح والواقعية.
ويبقى السؤال: هل يملك العالم العربي من الشجاعة الفكرية والسياسية ما يكفي ليوقف هذه الرقصة العبثية، وليحوّلها إلى مسيرة رصينة على أرض صلبة؟ أم أنّه سيظلّ، كما قال ابن خلدون، أسير “التداول بين الغلبة والانكسار”، في دوامةٍ لا تسمح له بالخروج من حافة الشفرة؟
إنّ الإجابة رهنٌ بقدرة الفكر السياسي العربي على تجاوز التكرار، وبقدرة المجتمعات على تحويل الخوف من السقوط إلى وعيٍ يُؤسّس لإيقاعٍ جديد: إيقاع لا يرقص على الشفرة، بل يعيد صياغة المسرح كله.