في لحظة فارقة من التاريخ الحديث، يتزلزل الدعم الدولي التقليدي لإسرائيل تحت ضربات الواقع الميداني، وصرخات الضحايا، وتصاعد موجات الرفض الشعبي والرسمي في شتى أنحاء العالم. هذه ليست مجرد ردود فعل عاطفية على مشاهد الموت والدمار في غزة، بل تحوّل نوعي في ميزان الخطاب الدولي حول إسرائيل وفلسطين، وانهيار تدريجي لسردية “الدولة الضحية” التي بُنيت عليها الشرعية السياسية والأخلاقية لدولة الاحتلال لعقود طويلة.
اليوم، أمام أعين العالم، تُرتكب مجازر ممنهجة بحق المدنيين الفلسطينيين، تُدمر البنية التحتية لحياة أكثر من مليونَي إنسان، يُستهدف الصحفيون، الأطباء، عمال الإغاثة، ويُحاصر شعب بأكمله في دائرة النار والدمار. وفي مقابل هذا كله، لم تعد العبارات المعلبة مثل “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس” كافية لتبرير الوحشية. فالعالم بات يرى، يسمع، ويقارن.
شهدنا خلال الأشهر الأخيرة تحولات غير مسبوقة في الخطاب السياسي داخل أوروبا: في البرلمان الإسباني، صوّتت غالبية النواب لصالح دعوة الحكومة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، في مشهد غير مألوف في تاريخ العلاقات الأوروبية الإسرائيلية. وزير الخارجية الأيرلندي أعلن صراحة أن ما يجري في غزة “لا يمكن أن يُرى إلا كمجزرة ممنهجة”، فيما رفعت بلجيكا صوتها في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية من خلال تجميد تصدير بعض مكونات الأسلحة التي قد تُستخدم في العدوان.
في بريطانيا، شهدت العاصمة لندن واحدة من أكبر التظاهرات المؤيدة لفلسطين في تاريخ البلاد، حيث خرج مئات الآلاف في مسيرات متواصلة للمطالبة بوقف الإبادة، وإنهاء الدعم البريطاني لإسرائيل. أما فرنسا، المعروفة سابقاً بانحيازها الصارخ، فشهدت احتجاجات ضخمة في قلب باريس رغم محاولات قمعها، ما يعكس اتساع الهوّة بين الرأي العام والحكومات الغربية الداعمة لإسرائيل.
من جهة أخرى، بدأت كبرى المؤسسات الإعلامية في الغرب بكسر حاجز الصمت والتواطؤ. صحف مثل The Guardian وLe Monde وThe New York Times لم تعد قادرة على تجاهل الأرقام الصادمة: أكثر من 35 ألف شهيد، غالبيتهم من الأطفال والنساء، آلاف الجرحى، وملايين من المحرومين من الماء والغذاء والدواء. هذا التوثيق اليومي، الذي تدعمه منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” و”أمنستي”، لا يترك مجالاً للإنكار، ويفرض على الإعلام أن يعكس الحقيقة لا أن يغطي عليها.
الأمم المتحدة، رغم شلل مجلس الأمن بفعل الفيتو الأميركي، شهدت تطوراً مهماً بتمرير الجمعية العامة لقرار يقضي بمنح فلسطين مزيداً من الحقوق داخل المنظمة الدولية، في خطوة رمزية لكنها تشير إلى تغير المزاج الدولي. كذلك، أعلنت المحكمة الجنائية الدولية، عبر المدعي العام كريم خان، أنها تدرس إصدار مذكرات توقيف ضد قيادات إسرائيلية بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ما يُعد سابقة قضائية قد تغير قواعد اللعبة في قادم السنوات.
هذا التراكم في المواقف لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة لتراكم جرائم الاحتلال التي لم تعد قابلة للتبرير أو التسويق، حتى في أوساط كانت تبرر كل شيء تحت شعار “الأمن الإسرائيلي”. من قتل الأطفال في حضن أمهاتهم، إلى قصف مدارس الأونروا، إلى استخدام المجاعة كسلاح في الحرب، كل ذلك تجاوز الخطوط الحمراء، ودفع عواصم القرار لإعادة النظر.
وفي الولايات المتحدة، الحليف التاريخي لإسرائيل، تتصاعد الضغوط على إدارة ترامب التي تواجه انتقادات داخلية لاذعة من أعضاء كونغرس، مثل رشيدة طليب، ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، وبيرني ساندرز، الذين وصفوا المساعدات الأميركية لإسرائيل بأنها “شراكة في الجريمة”. الجامعات الأميركية، مثل “هارفارد”، “ييل”، و”كولومبيا”، تشهد انتفاضة طلابية واسعة تُطالب بمقاطعة إسرائيل أكاديمياً، وهو تكرار لنموذج الحملة التي أسقطت نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا في ثمانينيات القرن الماضي.
كل هذه المؤشرات تدل على أن سردية “الضحية” التي تبنتها إسرائيل منذ نشأتها بدأت تفقد بريقها وشرعيتها في أعين العالم، وأصبح من الصعب تسويقها أمام مشهد الدماء والدمار المستمر. بل وأكثر من ذلك، باتت فلسطين نفسها تظهر كقضية عدالة عالمية، قضية شعب يسعى للتحرر والكرامة، تحاكي ضمائر الأحرار في كل مكان.
فالمعادلة تغيرت: لم تعد إسرائيل قادرة على إخفاء جرائمها، ولم تعد محصنة دولياً كما في السابق. والدعم الشعبي لفلسطين لم يعد مجرد تعاطف عابر، بل تحوّل إلى مطالب ملموسة بتغيير السياسات، وفرض العقوبات، والاعتراف بالدولة الفلسطينية كخطوة عملية لا كتصريح إعلامي. ومع تنامي هذا الاتجاه، يصبح الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية أقرب من أي وقت مضى، وقد تبدأ موجة رسمية خلال الشهور المقبلة تتوّج باعترافات متتالية تُحرج واشنطن وتُربك تل أبيب. مما دفع إدارة ترامب إلى إعادة حساباته أمام هذه الوضع القائم الذي قد يعصف حتى بمصالح بلاده في المنطقة والعالم
إنه زلزال حقيقي في العقل السياسي الغربي، وزمن جديد ينشأ على أنقاض الأكاذيب. إسرائيل اليوم ليست في مرمى النيران العسكرية فقط، بل في مرمى المحاسبة القانونية، والأخلاقية، والدبلوماسية، وحتى الشعبية. وكلما طالت حرب الإبادة، كلما تسارعت وتيرة السقوط في دوائر الرأي العام العالمي.
باختصار: السردية تنهار، والحق الفلسطيني ينهض من تحت الركام، لا كنداء إنساني فقط، بل كمشروع سياسي كامل يجد اليوم أوسع دعم له منذ عقود.
فهل نحن على أعتاب نهاية حقبة وبداية أخرى…؟
الأيام القادمة كفيلة بالإجابة