ليس في الصراع مع إسرائيل ألغاز، وإن كانت كواليس العواصم مملوءة بالأسرار. ولا إدارته مغلقة أمام المتغيرات، ولو كانت الثوابت أساسية. فالدول العربية فشلت في التسوية وقبلت «حل الدولتين»، بعدما فشلت القوة العسكرية في منع قيام الدولة العبرية عام 1948، ثم في تحرير فلسطين وحتى في «إزالة آثار العدوان» بعد هزيمة العام 1967. والجمهورية الإسلامية في إيران أسست وقادت «محور المقاومة» في إطار مشروع كبير لـ «تصحيح التاريخ» واستعادة الولاية، بحيث يبدو الصراع مع إسرائيل وإزالة ما سماها الإمام الخميني «غدة سرطانية» محطة في مسار الولاية، ولا مجال للتسوية فيها لأنها تعرقل المشروع الكبير. ولا يبدل في الأمر ما انتهت إليه تجارب السلاح في إدارة أو حل الصراع مع إسرائيل ومعها أميركا، لأن قراءة الوقائع والدروس محكومة بالإيديولوجيا والرهان على الغيب. والكتاب واحد، من غزة ولبنان وسوريا وصنعاء والعراق إلى إيران. وليس من المفاجآت، في مناخ التحرك الرسمي والشعبي لتنفيذ «حصرية السلاح» بيد الدولة وسط ضغوط عربية ودولية قوية، أن يصر الشيخ نعيم قاسم على بقاء السلاح في يد «حزب الله»، والإيحاء أنه وحده ما يحسم الصراع مع إسرائيل. فمن حق الرجل ورفاقه الإعتزاز بكونهم «أبناء الحسين، طلّاب شهادة في المعارك. لكن من واجبهم الانتباه إلى أن المعارك التي يتحمسون لخوضها من جديد ليست في صحراء «طبس» الإيرانية، بل في بلد لهم فيه شركاء من 18 طائفة، وله دولة وقرار معاكس لقرارهم الانفرادي. بلد يحتاج إلى إعادة إعمار واستثمارات ومساعدات وانسحاب الاحتلال من التلال الخمس في الجنوب، لا إلى حرب أخرى تحرم لبنان من يد المساعدة، وتراكم دماراً فوق دمار بعد «حرب الإسناد»، وما قادت إليه من ضربات شديدة أضعفت «حزب الله» وهجّرت بيئته وفرضت عليه وقف نار بالقراءة الإسرائيلية والأميركية.
ذلك أن المعادلة مكتوبة على الجدار: سحب السلاح من «المقاومة الإسلامية» وسيلة للحؤول دون تجدد الحرب، والاحتفاظ به والعمل سراً للمزيد من التسلح وصفة مؤكدة لمعاودة الحرب. فرصة مفتوحة مقابل خطر مطبق. وما دام «حزب الله» يعمل حسب خطابه وخطاب طهران وما بقي من «محور المقاومة»، الذي خلاصته أن حروب غزة ولبنان وإيران انتهت إلى «نصر إلهي» للجمهورية الإسلامية على أميركا وإسرائيل، فإن الترجمة البسيطة له هي المزيد من التسلح والتصلب ثم استخدام السلاح. بناء على الرمل فوق غلطة استراتيجية تكرر غلطة استراتيجية بعد «طوفان الأقصى» كلّفت لبنان و«الحزب» الكثير. و«الرسالة» باختصار هي: لا سحب سلاح.
وأخطر ما يحدث، بعد العجز عن منع إسرائيل من استمرار الحرب بالتقسيط جنوب الليطاني وشماله لضرب أفراد ومواقع للمقاومة، هو أن تستغل إسرائيل عجز لبنان عن سحب السلاح للقيام بالقضاء على السلاح في حرب مدمرة للبلد. ومن المهم أن تبدأ المداولات بين المسؤولين الكبار حول الرد اللبناني على نقاط أميركية طرحها توم برّاك، بينها موضوع سحب السلاح. لكن الناقص هو جواب واضح عن سؤال بديهي: هل سلّم «حزب الله» بسحب السلاح من حيث المبدأ، ولو مقابل شروط وجدول زمني تكرر السلطة الوعود بمدّه حتى نهاية العام الحالي؟ واللافت أن «الثنائي الشيعي» يوحي أنه هو من يدير اللعبة ويفرض شروطه، بدل أن تبادر السلطة إلى مساءلة «الحزب» الذي انفرد بقرار الحرب وكبّد لبنان ثمناً باهظاً. والمؤكد أن أي مشروع مذهبي إيديولوجي ومرتبط بقوة خارجية، سواء كان شيعياً أو سنياً أو مارونياً، هو هزيمة مؤكدة للبنان، وللتاريخ الذي نريد استعادته وتطوير نظامه والحوكمة فيه.
و«ما أكثر العِبر وأقل الاعتبار»، كما قال الإمام علي.
نقلا عن نداء الوطن