لا يمكن فصل زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس المرتقبة إلى لبنان في 19 مايو عن المشهد الأوسع الذي تتحرك ضمنه السلطة الفلسطينية خلال الشهر الحالي، فالجولة التي بدأها عباس من موسكو وتستكمل في عدد من العواصم العربية والدولية لا تأتي بدافع المجاملة الدبلوماسية بل تحمل في طياتها محاولة جدية لإعادة تقديم السلطة كجهة فاعلة ومسؤولة في زمن تتزاحم فيه المبادرات، وتُعاد فيه صياغة الاصطفافات.
زيارة بيروت على وجه الخصوص تتجاوز بعدها التقليدي لتلامس واحدا من أكثر الملفات تعقيدا في العلاقة اللبنانية – الفلسطينية، وهو ملف السلاح داخل المخيمات، هذا الملف الذي ظل لفترة طويلة محاطا بهواجس الحذر يدخل اليوم دائرة المعالجة ضمن تصور مشترك يحظى بقبول لبناني وفلسطيني ويستند إلى فكرة واضحة: لا أمن حقيقيا خارج منطق الدولة، ولا استقرار دون حصر السلاح بيد الدولة وفقط.
من ناحية فإن السعي إلى تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة رغم تعقيدات سياسات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المنحازة لإسرائيل قد يكون خطوة تكتيكية لاستعادة الحضور الفلسطيني في الأروقة الدولية، فالدبلوماسية الناجحة تتطلب أحيانا التعامل مع أطراف غير متوازنة شريطة أن يكون الهدف كسب حلفاء أو تخفيف الضغوط، كما أن محاولة السلطة الفلسطينية تقديم نفسها كجهة معتدلة ومسؤولة قد يُفيد في عزل الرواية الإسرائيلية التي تروّج لوصم القضية الفلسطينية بالإرهاب، وهذا ما يفسر الحرص على الفصل بين موقف السلطة وبعض الفصائل المسلحة خاصة في ملف حساس مثل مخيمات اللاجئين في لبنان.
السلطة الفلسطينية وهي تعود إلى هذا الملف لا تفعل ذلك من باب تصفية الحسابات الداخلية، بل لأن المرحلة تفرض عليها أن تثبت حسن النوايا أمام الشركاء الدوليين وعلى رأسهم الإدارة الأميركية، فمن خلال هذه الخطوة تُجدّد السلطة الخطاب الذي يؤكد على أنها قادرة على التمايز عن الجماعات التي ترفض منطق الدولة، وأنها مستعدة للتعاطي مع شروط الواقع الجديد من موقع المسؤولية لا من موقع رد الفعل.
ورغم أن السلطة لا تراهن كثيرا على انقلاب مفاجئ في الموقف الأميركي إلا أنها تدرك أن ثمة ديناميكيات جديدة تتشكل في المنطقة وتفرض عليها التفاعل لا الترقب، فالنقاش الذي بدأ يطفو مجددا حول إحياء اتفاقيات إقليمية شبيهة بـ”اتفاقيات أبراهام” لا يبدو معزولا عن مساعي إعادة ترسيم خارطة النفوذ بعد حرب غزة، وهذه الاتفاقيات وإن كانت قد ولدت في سياق مختلف فإنها اليوم تُطرح كممر إجباري لأيّ تصور لمستقبل غزة وكأن هندسة ما بعد الحرب لن تكتمل إلا بإعادة تركيب التحالفات الإقليمية تحت المظلة الأميركية، وتدرك السلطة أن هامش مناورتها ضيق، لكنها لا تريد أن تجد نفسها خارج الطاولة عندما تُوزع الأدوار وترسم خطوط المرحلة القادمة.
إن الرسائل التي توجهها السلطة عبر تحركاتها الأخيرة تتقاطع مع رغبات عواصم القرار في رؤية طرف فلسطيني قادر على التفاوض والإسهام في إعادة ترتيب الأولويات في الإقليم بعيدا عن منطق التصعيد العبثي أو المغامرة غير محسوبة العواقب، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنها مستعدة للقبول بأيّ صفقة تتجاوز الحقوق الفلسطينية أو صفقة تجعل منها جهازا إداريا خاضعا لدولة الاحتلال.
منذ السابع من أكتوبر لم تعد قواعد اللعبة هي ذاتها ولا السياقات التي ألفناها، بل حتى نظرة العالم إلى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي تغيرت وفي خضم هذه المعادلة الجديدة، تجد السلطة الفلسطينية أيضا نفسها في مرحلة مصيرية بعنوان “إما أن تكون أو لا تكون”.. لذلك فإن ما نشهده اليوم لا يُعدّ انقلابا على الثوابت بقدر ما هو مراجعة هادئة وواعية لأساليب العمل المتاحة والحرص على بناء إستراتيجية طويلة الأمد تجمع بين المقاومة السياسية والدبلوماسية الذكية، دون تفريط في الحق المشروع ببناء دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
* نقلا عن “العرب”