السوسيولوجيا العربية بين فوضى الواقع وضرورة الاستراتيجية المستقبلية:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

 

يُطرح سؤالٌ جوهري اليوم: هل لدى السوسيولوجيا العربية نظرية قادرة على استجلاء مظاهر الهيمنة الاجتماعية في مجتمعاتها؟. سؤالٌ يزداد إلحاحاً كلما واجهنا تفاقم الفجوات الاجتماعية، واستمرار تهميش الطبقات الضعيفة، وغياب مشروع معرفي قادر على مساءلة البُنى الثقافية والسياسية التي تُعيد إنتاج الاستبداد بأشكال جديدة.
لقد كان بيير بورديو نموذجاً في الفكر السوسيولوجي الغربي، حين ابتدع جهازاً مفاهيمياً يفسّر الهيمنة الرمزية، مستلهماً من ماركس وفيبر ودوركهايم وزيمل، لكنه لم يكن نسخة باهتة لهم، بل منح السوسيولوجيا أداةً تفسيرية ونقدية لفهم آليات إنتاج اللامساواة وإعادة إنتاجها. بينما لا تزال السوسيولوجيا العربية، في معظم تجلياتها، عاجزة عن بناء نظرية نقدية تُمسك بجذور الفوضى البنيوية التي تنخر المجتمعات العربية.

–1- السوسيولوجيا العربية: بين التبعية والتشظي:
يبدو أن علم الاجتماع العربي لم يستطع بعد تجاوز التبعية الأكاديمية للمناهج الغربية. فالجهد العربي ظل في معظمه شروحاً أو تطبيقات لأطر مفاهيمية جاهزة، دون إبداع نظري يخرج من رحم التجربة العربية ذاتها. لقد ظلت المجتمعات العربية تفتقد إلى قراءة نقدية عميقة لبُنى السلطة، ولآليات إنتاج الهيمنة الرمزية والدينية والاقتصادية، مما جعل الدراسات الاجتماعية أقرب إلى توصيف سطحي للظواهر، لا إلى تفكيكها.
وتظهر الفوضى هنا في شكلين:
_ فوضى معرفية: غياب جهاز مفاهيمي متماسك يعبّر عن خصوصية الواقع العربي.
_ فوضى اجتماعية: تفاقم الانقسامات الطائفية، القبلية، والطبقية، دون أدوات علمية لفهمها أو اقتراح حلول استراتيجية.

–2- سؤال الهيمنة في السياق العربي:
لقد رأى بورديو أن الهيمنة الاجتماعية لا تُمارَس بالقوة وحدها، بل عبر الرموز واللغة والثقافة التي تُشرعن التراتبية الاجتماعية. أما في المجتمعات العربية، فالهيمنة تتجلى عبر:
_ الدين المسَيَّس كأداة للضبط وإعادة إنتاج الخضوع.

_ العصبيات التقليدية التي تحول دون بناء مواطنة حديثة.
_ السلطة الاقتصادية الريعية التي تعيد تشكيل الولاءات.
لكن السوسيولوجيا العربية لم تُطوّر بعد جهازاً تفسيرياً يعادل “رأس المال الرمزي” أو “الحقل الاجتماعي” عند بورديو، لتفكيك هذه البُنى. وهنا تكمن الحاجة إلى نظرية عربية قادرة على ربط الواقع المحلي بآفاق نقدية كونية.

—3- نحو استراتيجية مستقبلية للسوسيولوجيا العربية:
إذا أردنا تجاوز الفوضى نحو تأسيس علم اجتماع عربي أصيل، فلا بد من وضع خطط استراتيجية مستقبلية، يمكن إجمالها في:
_ 1. بناء جهاز مفاهيمي محلي: ينطلق من التجربة العربية، ويستفيد من التراث السوسيولوجي العالمي دون الارتهان له.
_ 2. التركيز على الطبقات المهمشة: بوصفها المرآة الأكثر صدقاً لاختلالات البنية الاجتماعية.
_ 3. تحرير السوسيولوجيا من السلطة: إذ لا يمكن لعلم الاجتماع أن يتطور في ظل تبعية الجامعات العربية للأنظمة السياسية.
_ 4. الدمج بين المعرفة الأكاديمية والممارسة الاجتماعية: أي أن يكون علم الاجتماع فاعلاً في السياسات العامة، لا مجرد تنظير معزول.
_ 5. تطوير منظور نقدي للثقافة: لفهم كيف تُنتج اللغة، الدين، الإعلام، والفن أنماط الخضوع والهيمنة.
—خاتمة:

يبقى السؤال معلقاً: متى يكون للعرب نظرية سوسيولوجية تُنير الطريق للطبقات المهمشة نحو حياة أكثر عدلاً وسعادة؟.
إن الإجابة لا تكمن في استيراد النماذج الغربية كما هي، بل في استلهام روحها النقدية وإعادة إنتاجها وفق خصوصية التاريخ العربي. فالسوسيولوجيا العربية، إذا لم تنهض إلى مستوى النقد العميق، ستظل سجينة الفوضى، عاجزة عن أن تكون أداةً للتنوير والتحرير.
وكما قال بورديو: “المعرفة هي سلاح الفقراء إذا ما امتلكوا وعيهم بذواتهم”.