السويداء بعد سقوط الأسد، من المسؤول عن العزلة القسريّة!!

فرح العاقل

مع سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة جديدة من التحولات السياسية والاجتماعية. وبينما اتجهت معظم المحافظات السورية نحو محاولات التقارب وإعادة ترميم النسيج الوطني، بدت السويداء وكأنها تغرّد خارج هذا السياق، محتفظةً بعزلة سياسية وجغرافية عن محيطها السوري، رغم مشاركتها الطويلة في معارضة النظام ورفضها الانخراط في العنف.

هذا الانكفاء لا يمكن تفسيره بعامل واحد، بل هو نتيجة تراكب عوامل متعددة: سياسية، وأمنية، واجتماعية، ودينية. فما أسباب هذه العزلة؟ ومن يتحمّل مسؤوليتها؟ وما الآثار المترتبة عليها؟ والأهم: كيف يمكن تجاوزها؟

السويداء، خصوصية الموقع والهوية

تقع محافظة السويداء جنوب سوريا، وتتميّز بغالبية درزية متماسكة ثقافياً واجتماعياً، وبتاريخ نضالي ضد الاستعمار الفرنسي، وبدور فاعل في الثورة السورية السلمية. لكنها، في الوقت نفسه، اختارت طريق “الحياد المسلح” خلال الحرب، رافضةً الانخراط في الصراعات العسكرية، ومحافظة على مسافة من النظام والمعارضة المسلحة معاً.

من المسؤول عن العزلة؟

الإرث الأمني للنظام:
اعتمد نظام الأسد لعقود سياسة “العزل المقصود” لبعض المناطق، وأحاط السويداء بجدران أمنية وعلاقات مقطوعة مع جيرانها في درعا وريف دمشق، ما خلق واقعًا هشًا استمر حتى بعد سقوطه.
غياب قيادة سياسية موحدة:
لم تبرز بعد سقوط النظام قوى سياسية مدنية أو مجتمعية موحّدة داخل السويداء تستطيع تمثيلها في الفضاء السوري العام، كما لم تنجح محاولات سابقة للتنسيق الجاد مع قوى الثورة في الداخل.
صعود مجموعات محلية غير منضبطة:
مع تفكك مؤسسات النظام، نشأت مجموعات مسلحة أهلية داخل السويداء، تختلف في رؤيتها وتوجهاتها، ما ساهم في تعقيد المشهد الأمني، وعرقلة فرص التعاون مع الجوار.
الزعامات الدينية بين الحرص والحذر والجمود:
تلعب الزعامات الدينية الدرزية في السويداء، وعلى رأسها مشايخ العقل، دوراً محورياً في تشكيل الرأي العام المحلي وتوجيهه. خلال فترة الحرب، اعتمدت هذه المرجعيات خطابًا يتسم بالحذر الشديد، يركّز على الحفاظ على وحدة المجتمع المحلي، ويدعو للابتعاد عن الاصطفاف الطائفي والصدام المسلح. هذا الخطاب، الذي ساعد على حماية السويداء من الانزلاق في أتون الحرب الطائفية، بات يُنظر إليه اليوم – بعد سقوط النظام – كأحد أسباب الجمود والعزلة، إذ لم ترافقه أي مبادرات حقيقية للانخراط في الحوار الوطني، أو للتفاعل مع المشروع السوري الجديد الذي تتشكّل ملامحه في الداخل. وبينما برزت أصوات دينية تدعو للانفتاح والتواصل مع محيط السويداء الجغرافي والسياسي، بقيت المواقف الرسمية لمعظم المرجعيات الدينية الكبرى تتسم بالتحفّظ المبالغ فيه، وبتقديم خطاب “الخصوصية” على مبدأ الشراكة، ما جعل كثيرين يرون أن الزعامات الدينية اليوم أمام اختبار، إما أن تكون جسراً نحو المستقبل، أو عاملًا في تكريس العزلة.
التحريض الإعلامي والطائفي:
أسهمت بعض وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بترسيخ صورة نمطية سلبية عن السويداء معتبرة أنها تنتفع من الحياد أو تتقوقع طائفياً، ما زاد من فجوة الثقة وأسهم في احتقان تسبب انفجاره، نتيجة تسجيل صوتي مفبرك، بأحداث دامية بدأت في مدينة جرمانا مروراً بصحنايا والأشرفية وحتى السويداء.
مسؤولية الإدارة السورية الجديدة:
بعد سقوط نظام الأسد، كانت الإدارة السورية الجديدة أمام فرصة لإعادة اللحمة بين جميع المناطق السورية. غير أن غياب استراتيجية واضحة وشاملة للتعامل مع السويداء بشكل خاص، أدى إلى استمرار العزلة السياسية والجغرافية لها. لم تشهد السويداء أي تحركات تُمكّنها من الاندماج الفعّال في المشهد السياسي السوري الجديد. بل على العكس، استمر غياب الدعم السياسي والمشاريع التنموية التي يمكن أن تسهم في تطوير المنطقة وربطها ببقية المناطق السورية.
النتائج المترتبة على العزلة:

ـ اقتصادياً: تعثّر حركة التبادل مع درعا وريف دمشق، وتدهور المرافق الخدمية.

ـ سياسياً: غياب الحضور الفاعل للسويداء في مؤتمرات ومجالس النقاش حول مستقبل سوريا.

ـ أمنياً: تفشي السلاح المنفلت.

ـ اجتماعياً: تنامي شعور الإحباط بين الشباب، وتراجع الأمل بالتكامل الوطني.

كيف يمكن كسر العزلة؟

انفتاح ديني وسياسي:
المطلوب اليوم خطاب جديد من الزعامات الدينية يتجاوز الحذر، نحو لعب دور فاعل في إطلاق حوار داخلي وخارجي، يربط السويداء بمحيطها السوري بدلًا من إبقائها في إطار الخصوصية المغلقة.
دعم المبادرات الشبابية والمدنية:
في ظل غياب الأطر الرسمية، تشكّل المبادرات المحلية من شباب ونساء المحافظة بارقة أمل. يجب تمكين هذه المبادرات لتقود عملية انفتاح حقيقي من القاعدة إلى القمة.
مشاريع تكامل اقتصادي:
ربط السويداء اقتصاديًا بمحيطها الجغرافي في الجنوب خطوة أولى لتجاوز العزلة، وتشجيع المصالح المشتركة بدلًا من الانغلاق.
تحرك وطني شامل:
على القوى الوطنية السورية أن تبادر لكسر الحواجز النفسية والسياسية مع السويداء، والتعامل معها كجزء أساسي من الجغرافيا الوطنية لا كحالة رمزية أو استثنائية.
خطاب إعلامي وطني:
العمل على تكريس حالة إعلامية وطنية تتحرى الدقة والموضوعية وتكون على مسافة واحدة من جميع الأطراف بعيداً عن خطاب الكراهية والتحريض الطائفي.
عزلة السويداء اليوم ليست خياراً حرّاً، بل نتاج منظومة من السياسات والمخاوف والتقاعس. لكن استمرارها قد يفوّت على المحافظة دورًا محوريًا في رسم ملامح سوريا الجديدة، وقد يزيد من ضعف النسيج الوطني السوري. المطلوب هو شجاعة جماعية من الداخل في السويداء، ومن محيطها الوطني، ومن زعاماتها الدينية تحديدًا، لتجاوز الحذر والجمود، والمضي نحو شراكة حقيقية في بناء المستقبل.

نقلا عن الرافد