الأيام التي عاشها العالم والمنطقة بعد تطور الاشتباك الإسرائيلي – الإيراني إلى حال حرب شاملة، صعق كثيرين ولا سيما الذين لم يعيشوا الحروب المتعددة في الشرق الأوسط، بحجم المجابهة وتطورها إلى حال شبه كارثية، فالناس يشاهدون فيلماً هوليوودياً، والأمل أن المستقبل لا يزال مفتوحاً على مصراعيه ولكنه لا يزال مجهولاً، وسنحاول استعراض التطورات الصادمة المتتالية التي انبثقت عن غزو السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، والتي تدحرجت إلى الضربة الاستباقية الإسرائيلية الأخيرة وتلتها الضربة الإيرانية وتحولت إلى حرب ضربات، حتى وجّه الرئيس الأميركي دونالد ترمب حملة جوية دمرت معظم البرنامج العسكري النووي لدى النظام، إلى قصف إسرائيلي محكم على ميليشيات الـ “باسيج” تمهيداً لانتفاضة شعبية ضد النظام، وهذا ما شاهده المراقبون، فما حدث؟ وما هي السيناريوهات الآتية؟
لقد كتبنا بما فيه الكفاية خلال العامين الماضيين عن المواجهة بين إسرائيل و”محور المقاومة” الممتد من إيران إلى ضاحية بيروت الجنوبية، وخلصنا إلى أن سلاماً عميقة حقيقياً ودائماً لن يحصل بين الطرفين، فالمنظومة الخمينية لن تقبل بوجود “كيان إسرائيلي” شرق المتوسط وستسعى إلى إضرام أي نار عبر أية قوة لإضعاف وتفكيك الدولة العبرية، وآيات الله أيضاً يضمرون المصير نفسه لعدد من الحكومات العربية، وإن كانت هكذا نية مموهة الآن، وبالتالي فالمواقف بين إسرائيل وإيران كانت متجهة إلى الاشتباك الشامل المباشر أياً كانت المعادلة.
طلب ترمب من إسرائيل عدم الرد وطلب من إيران التفاوض خلال 60 يوماً، طهران لم تجب ونتنياهو اعتبر أن طهران تتلاعب وتبني قوة إقليمية تستعد لـ “7 أكتوبر” آخر بحجم أكبر، ومع حلول اليوم الـ 61 شن الطيران الإسرائيلي موجات من القصف الجوي على مواقع النظام والأسلحة الإستراتيجية، ولا سيما بطاريات مضادة للطيران وقادة في النظام، وردت طهران بتوجيه صواريخ باليستية كبيرة وعدة لتضرب مدناً وتجمعات سكنية في إسرائيل، ووصلت موجة التبادل الصاروخي ذروتها، وهنا تدخل الرئيس ترمب وأمر بتدمير الجزء الأكبر من المواقع النووية، بما فيها مراكز التخصيب والتسليح ومخازن الصواريخ، وعملياً قضت الضربة الأميركية على معظم البرنامج وإن بقي بعض المراكز الأصغر، واعتبر الرئيس الأميركي أن الحرب انتهت وأنه هو الذي أوقفها، وبدا بالضغط على الطرفين ليضعا حداً للقصف، وجرى قصف متبادل حتى حلول ساعة المباشرة بوقف إطلاق النار. وإذ نكتب هذه المقالة فليس معروفاً ما قد يكون مستقبل انتهاء هذه الجولة من المجابهة، لكن ما بات واضحاً أن الهلال الأخضر والجزيرة العربية تغيرا، إذ كشفت أطراف الصراع الأساس عن نياتها وقدراتها طويلة الأمد عسكرياً، ومن المفارقة أن الرئيس ترمب يبدو وكأنه الأكثر تمسكاً بوقف حاسم للنار والعمليات العسكرية، ودعوة الجميع إلى الجلوس حول طاولة المفاوضات، لذا نراه يؤنب الطرفين بسبب إطلاق صواريخ متبادلة، ووصفهما بأنهما “لا يعرفان ماذا يقومان به”، إذ يسعى الرئيس الأميركي إلى تجنب أزمة داخلية حادة في حزبه بين المعسكر المؤيد لإسرائيل والمواجه لإيران، والجناح “الانعزالي” الذي يبدو وكأنه اقترب من موقف إيران ويدعو إلى توقيع معاهدة جديدة معها، وقد ظهرت ملامح الانقسام العميق على منشورات ترمب من هجوم على الملالي إلى انتقاد حاد لإسرائيل إلى ردع الانعزاليين إلى الرد على أنصار إسرائيل ومن يسميهم “محبي الحرب”.
ويشير التقييم السياسي إلى أن اللوبي الإيراني باتت له ذراع في اليسار وأخرى في أقصى اليمين الأميركي، وهذا ما جعل الموقف الأميركي بين متغير ومتذبذب كما رأينا خلال الجولة الأخيرة، فالإدارة، وبخاصة الرئيس، ترد على أقصى اليمين بألا يتدخل بقرارات الرئيس، وأيضاً توبخ أصدقاء رئيس وزراء إسرائيل في أميركا وأن يكفوا عن الضغط على الرئيس في قراراته حيال الحرب في المنطقة.
لكن الأهم يحصل في المنطقة عند الأطراف الثلاثة الأساس، إيران وإسرائيل وأميركا، فالقيادة الإيرانية تدفع باتجاه وقف إطلاق نار فوري وإعادة اللحمة الإستراتيجية مع شركائها، الصين وروسيا وكوريا الشمالية، للحصول على أسلحة متقدمة وفتاكة تحت هدنة وقف إطلاق النار الذي يحميها ترمب، فتعيد حداً أدنى من التوازن الإستراتيجي، وإيران تعرف أنها لن تعيد بناء ما خسرته في البرنامج النووي قبل أعوام، ولن تعيد تركيبة المنظمات الصاروخية المضادة للطيران بسرعة، وتريد سلاحاً “يضمن الردع الإلهي” للجمهورية الخمينية، وهذا يؤذي الإستراتيجية الإسرائيلية ويدفعها إلى خسارة الوقت، وإن حصلت مواجهة مستقبلية فالولايات المتحدة ستضع ثقلاً أكبر وتمر بأخطار أدق إذا قررت الالتحاق بحملات إسرائيلية مستقبلية محتملة، وطبعاً قوة أميركا العسكرية لا تضاهى، ولكن الوقت يلعب دوراً كبيراً في اتخاذ القرارات الكبرى، ووقف النار سيكون لمصلحة إيران.
*نقلاً عن “إندبندنت عربية”