الصهيونية الدينية وتفكيك مسار التسوية السياسية: نهاية وهم الحلّ السياسي بعد السابع من أكتوبر

بقلم: د. عبد الرحيم جاموس

في امتدادٍ لما عُرض في المقال السابق حول «الصهيونية الدينية بعد السابع من أكتوبر» الذي تناول تحوّل الفكر الصهيوني إلى عقيدةٍ تبرّر الإبادة والاقتلاع تحت غطاء “الخلاص التوراتي”، يأتي هذا المقال ليواصل التحليل من زاويةٍ أخرى؛ إذ يبحث في النتائج السياسية المباشرة لهذا التحول الأيديولوجي على مستقبل التسوية، ويكشف كيف أدّى تغوّل الصهيونية الدينية إلى تفكيك مسار المفاوضات وإجهاض وهم الحلّ السياسي برمّته.
لقد كان السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 نقطة انعطاف كبرى في التاريخ السياسي الإسرائيلي، ليس بما حمله من هزّة عسكرية فقط، بل بما أطلقه من تحوّل فكري داخلي في بنية الوعي الإسرائيلي.
إذ برزت الصهيونية الدينية كأيديولوجيا حاكمة تمسك بزمام الدولة وتعيد تعريف مشروعها وموقعها في المنطقة.
لم تعد إسرائيل تتحدث عن “سلامٍ ممكن” أو “تسويةٍ ضرورية”، بل عن “نصرٍ مقدس” و“حقٍ توراتي مطلق”، الأمر الذي يُخرج فكرة التسوية من نطاق السياسة إلى دائرة المحرّمات الدينية.
أولًا: من الهامش إلى مركز القرار ….
تُظهر التحولات التي أعقبت 7 أكتوبر أن الصهيونية الدينية لم تعد مجرّد تيار متشدد في المشهد الإسرائيلي، بل أصبحت العقيدة الرسمية للدولة. فالحكومة الحالية، التي يقودها نتنياهو متكئًا على تحالفات اليمين الديني المتطرف كـ”الصهيونية الدينية” و”عوتسما يهوديت”، تجسّد الاندماج الكامل بين النصّ الديني والقرار السياسي.
هذا الاندماج جعل من الحرب ضد غزة “وصية توراتية”، ومن الاستيطان “تكليفًا ربانيًا”، ومن نفي الآخر الفلسطيني “ضرورة خلاصية”، وبذلك أُغلقت الأبواب أمام أي حديث عن مفاوضات أو تسويات أو حتى إدارة نزاع.
ثانيًا: انهيار منطق التسوية ….
تكشف التجربة التاريخية أن التسوية السياسية كانت تستند، نظريًا، إلى براغماتية صهيونية تقبل بالمساومة التكتيكية حين تقتضيها المصلحة.
أما بعد تغلغل الصهيونية الدينية في مفاصل الحكم، فقد انهار هذا المنطق، لأن العقيدة الجديدة تحرّم التنازل عن الأرض أو الاعتراف بالآخر.
لم يعد “حلّ الدولتين” خيارًا مطروحًا داخل المؤسسة الإسرائيلية، بل بات منبوذًا فكريًا ومرفوضًا دينيًا.
وهكذا، انتقل الخطاب الإسرائيلي من “إدارة الصراع” إلى حسم الصراع “إنهائه بالقوة”، ومن “سلام الضرورة” إلى “خلاص الإبادة”، والنتيجة أن الحلّ السياسي لم يعد متعثرًا فحسب، بل منعدم الأساس الأيديولوجي في الوعي الإسرائيلي الراهن.
ثالثًا: تداعيات التحول على مستقبل الصراع…..
إن أخطر ما أنتجته الصهيونية الدينية هو تحويل الصراع من نزاع سياسي إلى معركة وجودٍ دينية مطلقة.
فالفلسطيني في الوعي الصهيوني الجديد لم يعد خصمًا سياسيًا يمكن التفاوض معه، بل عقبة لاهوتية يجب محوها.
ومن هنا، يغدو الرهان على استئناف المفاوضات رهانًا على سرابٍ سياسي، لأن الخصم الذي يرى نفسه أداة تنفيذٍ لإرادة إلهية لا يمكن أن يعترف بشرعية الآخر.
في المقابل، يفرض هذا التحول على الفلسطينيين والعرب مراجعةً جذريةً لمفاهيم “السلام” و“التسوية”، وإعادة بناء مقاربة استراتيجية جديدة تقوم على المقاومة الشاملة، لا بوصفها ردّ فعلٍ غاضب، بل مشروعًا تحرريًا متكاملًا يجمع بين الوعي السياسي والثقافي والإنساني.
فمواجهة الأيديولوجيا الدينية الإقصائية لا تكون بالاستجداء الدبلوماسي، بل بإنتاج خطابٍ تحرريٍ إنسانيٍ يُعيد الاعتبار للحقّ التاريخي والعدالة الكونية.
لقد بيّن المقال السابق أن الصهيونية الدينية بعد 7 أكتوبر أعادت إنتاج مشروع “إسرائيل الكبرى” على أسسٍ لاهوتيةٍ، وأطلقت موجة الإبادة والاقتلاع باعتبارها جزءًا من “التحقق الإلهي”. واليوم، يؤكد هذا المقال أن ذلك التحول لم يبقَ في حقل الفكر والعقيدة فحسب، بل امتد إلى تقويض النظام السياسي نفسه، لينهي وهم التسوية ويغلق الباب أمام أي مشروع سلام واقعي.
وهكذا، لم تعد المسألة مرتبطة بجمود المفاوضات أو تشدد الحكومات، بل بانقلابٍ في بنية الوعي الصهيوني ذاته، الذي لم يعد يرى في التفاوض إلا خيانةً للدين والتاريخ.
أمام هذا الواقع، يصبح الطريق الفلسطيني واضحًا: بناء رؤية تحررية مستقلة تعيد صياغة المشروع الوطني وفق معادلةٍ جديدة عنوانها الصمود على الأرض، والكرامة لا التبعية، والحقّ لا التسوية، والمقاومة لا الاستسلام.
لقد انتهى وهم الحلّ السياسي، وبقي الصراع مفتوحًا بين مشروع الإبادة ومشروع الحياة، بين سردية “الخلاص التوراتي” وسردية “التحرر الإنساني” التي ما زال الشعب الفلسطيني يجسّدها بدمه وصموده وإيمانه العميق بعدالة قضيته.
د. عبدالرحيم جاموس
الرياض 1/11/2025