الضفة في عين العاصفة: بين اعتداءات الاحتلال ومحاولة جرّ الأمن الفلسطيني إلى مربع الفوضى

بقلم :م.محمد علي العايدي

تعيش الضفة الغربية اليوم واحدة من أخطر مراحلها منذ سنوات طويلة، مع تصاعد الاعتداءات المنظمة من جيش الاحتلال والمستوطنين على أبناء شعبنا في المدن والقرى والطرقات. هذه الاعتداءات لم تعد أحداثًا عابرة، بل باتت جزءًا من استراتيجية إسرائيلية ممنهجة تقوم على إحراق الأشجار، تدمير الممتلكات، تهجير العائلات في المناطق الريفية، وتوسيع البؤر الاستيطانية بقوة السلاح تحت حماية الجيش.

هذه السياسة ليست فوضى ناتجة عن “انفلات المستوطنين” كما تحاول حكومة نتنياهو ترويجها، بل هي سياسة هادفة إلى فرض واقع جديد بالقوة، وتحويل الضفة إلى مساحة مطاردة مستمرة، بهدف تقويض الحياة الفلسطينية ودفع الناس نحو الرحيل أو الاستسلام.

من الواضح أن أحد الأهداف المركزية لهذه السياسة، في هذا التوقيت تحديدًا، هو جرّ الأجهزة الأمنية الفلسطينية إلى مواجهة مباشرة مع الميدان، سواء عبر الضغط الشعبي الناتج عن الغليان، أو عبر الاشتباكات التي يسعى الاحتلال لاستدراجها.

فالاحتلال يدرك جيدًا أن دخول الأمن الفلسطيني في هذه الدوامة سيعني انهيار المنظومة المدنية في الضفة، وتحويل المشهد إلى حالة مشابهة لما صنعه الاحتلال في غزة منذ 2006–2007، حين دفع نحو تفكيك منظومة الحكم ثم شن حروبه اللاحقة.

إسرائيل تريد تدمير الضفة من الداخل دون أن تتحمل مسؤولية مباشرة. تريد صراعًا فلسطينيًا–فلسطينيًا، أو على الأقل تفككًا داخليًا يجعل الأرض مكشوفة أمام التوسع الاستيطاني بلا تكلفة سياسية أو أمنيه

في السياق السياسي الإسرائيلي، يبدو نتنياهو اليوم أكثر استعدادًا لإشعال أي معركة جديدة – سواء في الضفة أو عبر الحدود – لأن المعركة بالنسبة له ليست أمنية فقط، بل شخصية. فالرجل الذي يواجه ملفات فساد ومحاكمة قد تطيح به سياسيًا وتهدد مستقبله، يرى أن الحرب هي طريقه الوحيد للبقاء في السلطة وتجاوز القضاء.

ولذلك، فإن إشعال التوتر في الضفة يمثل بالنسبة لنتنياهو خيارًا مربحًا:
• يزيد من التفاف اليمين حوله؛
• يؤجل أو يعطل مسار محاكمته؛
• يعيد ترتيب أولويات الإعلام والسياسة داخل إسرائيل؛
• ويضع القوى الدولية أمام وقائع جديدة تمنحه وقتًا إضافيًا.

هذه الحسابات الشخصية تتقاطع مع مشاريع أيديولوجية أكثر تطرفًا لدى شركائه من اليمين الديني والقومي، الذين باتوا يرون في الضفة “ساحة للحسم التاريخي” وليس منطقة احتلال مؤقت.

ما الذي يجب فعله فلسطينيًا؟

1. حماية الجبهة الداخلية وقطع الطريق على مخطط التفجير الداخلي

أول واجبات المرحلة هو إبقاء الضفة موحدة ومتماسكة ومنع الاحتلال من تحقيق هدفه الأكبر: تفكيك الساحة الداخلية. ويعني ذلك:
• تجنب الانجرار نحو أي صدام فلسطيني–فلسطيني؛
• تعزيز مفهوم الشراكة الوطنية في إدارة الميدان؛
• الحفاظ على التنسيق المجتمعي بين القوى والفصائل والفعاليات الشعبية؛
• دعم صمود المناطق الريفية والقرى المهددة بالاستيطان.

2. تعزيز المقاومة الشعبية المنظمة

المطلوب ليس ترك الشارع بلا قيادة، ولا تحويله إلى فوضى غير محسوبة. المطلوب مقاومة شعبية مبنية على تنظيم ميداني واسع:
• لجان حماية للقرى؛
• شبكات إنذار مبكر ضد اعتداءات المستوطنين؛
• حملات وطنية لإسناد المناطق المهددة؛
• توثيق حقوقي منظم لرفع قضايا دولية ضد المستوطنين وقادة الجيش.

هذه المقاومة الشعبية هي الورقة التي تخشى إسرائيل من اتساعها، لأنها لا توفر لها مبررًا كافيًا لشن هجمات عسكرية واسعة، وفي الوقت نفسه تُظهر العالم حقيقة المشروع الاستيطاني.

3. دور السلطة الفلسطينية: الصمود السياسي لا الصدام الأمني

على السلطة أن تحافظ على تماسك المؤسسات، وأن ترفض أن تتحول إلى أداة في المخطط الإسرائيلي. هذا يتطلب:
• الثبات على الموقف السياسي الرافض للتوسع الاستيطاني؛
• استثمار كل منصة دولية لإحراج إسرائيل قانونيًا؛
• حماية المجتمع المدني من الانهيار؛
• تعزيز صمود المواطنين بدلًا من إدخال الأجهزة الأمنية في معارك يريدها الاحتلال.

4. مسؤولية حركة فتح في هذه اللحظة

فتح، باعتبارها الحركة الأكبر سياسيًا وجماهيريًا، عليها دور استثنائي في هذه المرحلة الحساسة:
• قيادة الجهد الوطني الموحد بعيدًا عن الانقسامات؛
• تنظيم فعل شعبي منضبط يواجه اعتداءات المستوطنين؛
• حماية وحدة الشارع ومنع الاحتلال من استثمار التوتر الداخلي؛
• إعادة فتح القنوات الميدانية والسياسية مع القوى والفصائل لبناء رؤية وطنية مشتركة؛
• توجيه الخطاب الجماهيري نحو مواجهة المشروع الاستيطاني وليس الخلافات الداخلية.

فتح مطالبة اليوم بأن تتصرف باعتبارها حركة قيادة لا حركة سلطة، وأن تضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، وتحافظ على روح المقاومة الشعبية التي كانت دائمًا جزءًا من هويتها التاريخية

ما يجري في الضفة ليس اعتداءات عابرة، بل مشروع سياسي–أمني متكامل هدفه هدم وحدة المجتمع الفلسطيني، وسحب الأمن الفلسطيني إلى مربع الفوضى، وتوفير حلبة جديدة لهروب نتنياهو من أزماته ومحاكمه.

ومواجهة هذا المشروع تتطلب:
• وعيًا وطنيًا موحدًا،
• قيادة سياسية رشيدة،
• فعلًا شعبيًا منظمًا،
• ودورًا مسؤولًا من حركة فتح بوصفها العمود الفقري للنظام السياسي الفلسطيني.

إن الحفاظ على الضفة من الانهيار هو اليوم أولوية وطنية كبرى، وهو الطريق الوحيد لإفشال مخططات الاحتلال ومنع إعادة سيناريو غزة بصوره جديده