تصويت الكنيست الإسرائيلي لصالح مشروع قانون فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية لا يمكن التعامل معه كحدث اعتيادي في سلسلة الانتهاكات المستمرة، بل هو إعلان صريح عن مرحلة جديدة تتجاوز الاحتلال العسكري إلى الضم القانوني الفعلي. إنه إعلان نوايا مكشوفة، بأن الإحتلال لم يعد يرى في الضفة الغربية أرضا تحت سيطرته المؤقتة، بل يعتبرها امتدادا لحدوده السياسية والدينية والتاريخية المزعومة.
صحيح أن هذا التشريع، في مرحلته الأولى أو التمهيدية، لا يعد نافذا بشكل فوري أو ملزما للحكومة الإسرائيلية من الناحية القانونية، ما لم يمر بكامل المسار التشريعي ويقر بشكل نهائي في القراءات الثلاث داخل الكنيست، لكن خطورته لا تكمن فقط في البعد القانوني، بل في رمزيته السياسية وتأثيره العملي. فمجرد تمرير مثل هذا القانون في قراءة أولى هو بمثابة ضوء أخضر للحكومة اليمينية للمضي قدما في خطوات ضم زاحف على الأرض، سواء من خلال التوسع الاستيطاني، أو تكثيف السيطرة الأمنية والإدارية على المناطق المصنفة (ج)، و تغيير الواقع الديمغرافي والسكاني بشكل منهجي.
وهنا يجب التأكيد أن أي ضم، سواء كان تدريجيا أو كاملا، وبغض النظر عن الشكل القانوني الذي يتخذه كيان الإحتلال، هو ضم باطل قانونا وفق القانون الدولي، ومخالف لقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، ويعد انتهاكا خطيرا لحقوق الشعب الفلسطيني الغير قابلة للتصرف.
هذه الخطوة، إن مضت بلا رد فلسطيني جاد، تعني ببساطة نهاية حل الدولتين، وتكريس واقع الدولة الواحدة بنظام فصل عنصري، يكون فيه الشعب الفلسطيني من دون حقوق أو سيادة، عبارة عن كتلة بشرية محاصرة ومعزولة داخل كانتونات، محاطة بالجدران والحواجز والمستوطنات. إنها لحظة تهديد وجودي لا تتعلق فقط بمصير الأرض، بل بالمعنى الكامل للهوية الفلسطينية، وبالمستقبل السياسي والحقوقي والإنساني لشعبٍ ما زال تحت الاحتلال منذ ما يقارب من الثمانية عقود.
الضم لا يعني فقط مصادرة المزيد من الأراضي أو توسيع المستوطنات، بل يشرعن عمليا سياسات التطهير العرقي والتهجير القسري، ويعطي الضوء الأخضر لمزيد من الإجراءات التي تسعى لإفراغ المناطق الفلسطينية من أهلها. في ظل هذا السيناريو، تتآكل فكرة الدولة، ويتحول المشروع الوطني إلى ذكرى، ويختزل النضال الفلسطيني في مجرد البقاء تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
لكن الكارثة الأكبر ليست فقط في ما يفعله كيان الإحتلال، بل فيما لا نفعله نحن الفلسطينيون، حتى اللحظة، لا يوجد موقف وطني موحد يرقى إلى حجم التهديد. لا توجد خطة، ولا قرار بطي صفحة أوسلو، ولا تحرك فاعل لتوحيد المؤسسات، ولا مقاومة جدية على الأرض. الانقسام مستمر، والسلطة تراوح مكانها، والفصائل غارقة في حساباتها، فيما الاحتلال يراكم الوقائع.
الفرصة ما تزال قائمة، لكنها تضيق بسرعة. لا بد من تحرك فلسطيني شامل يعيد تعريف المشروع الوطني على أساس مقاومة الاحتلال، وليس التكيف معه. المطلوب قيادة وطنية تعيد بناء منظمة التحرير لتشمل الجميع، وتضع حداً للانقسام وتُطلق برنامجا نضاليا يدمج بين العمل الشعبي والسياسي والقانوني والدولي، ويعيد الاعتبار لفكرة التحرر الوطني بكل ما تحمله الكلمة من معاني.
الرهان على المجتمع الدولي وحده خاسر، ما لم يأت مقرونا بفعل فلسطيني على الأرض. الإحتلال لا يتحرك في فراغ، بل يستفيد من حالة التراخي الفلسطيني، ومن ازدواجية المعايير الدولية، ومن الصمت العربي المشين. وإذا بقي الوضع على حاله، فإن الاحتلال سيكمل مخططاته بأقل تكلفة ممكنة، وسيفرض وقائع جديده على الأرض يتعذر تغييرها لعقود.
المسؤولية هنا لا تقع فقط على القيادة الفلسطينية الرسمية، بل أيضا على الفصائل التي لم تنجح في تشكيل بديل موثوق، وعلى النخب التي صمتت طويلا، وعلى الشارع الذي تقهقر بين اليأس واللامبالاة. الكل معني، والكل محاسب، والتاريخ لا يرحم.
إن لم نتحرك الآن، فمتى؟ وإن لم ندافع عن حقنا، فكيف ننتظر من الآخرين أن يدافعوا عنا؟ المعادلة الحاسمة اليوم تقول: إما أن نبني مشروع مقاومة يواجه مشروع الضم، أو أن ندفن جميعا تحت ركامه، لا كضحايا فقط، بل كمقصرين أيضاً.