في مجتمعاتنا، ثمة فئة لا يطيب لها المقام إلا في الصدوع والشقوق التي تسعى هي ذاتها إلى تعميقها بين الناس، وكأن وجودها مرهون بتوسيع المسافات لا بردمها. تراهم ديمقراطيين أكثر من أثينا حين يكونون خارج السلطة، متغنين بالمبادئ وحقوق الإنسان، لكن ما إن تُفتح أمامهم أبواب الحكم حتى يتحولوا إلى طغاة لا تحدّهم حدود، مستبدين في قراراتهم، مستأثرين بالحقائق وكأنها ملكية خاصة.
لقد احترف هؤلاء وضع العصي في دواليب كل مشروع أو محاولة إصلاح، لا لشيء إلا لأن المعارضة عندهم غاية في ذاتها، فهم “الجملة المعترضة” في كل كتاب، والاعتراض بالنسبة لهم ليس بحثاً عن بديل أفضل، بل مجرد نفي لكل ما هو قائم. يعتقدون في أنفسهم العصمة، بينما الآخرون في نظرهم على خطأ دائم، ولهذا فهم يهيئون العقاب قبل أن يجدوا التهمة، ويبحثون عن متهم قبل أن تقع الجريمة.
وكما قال ميلان كونديرا، فإن الأخطاء التي يزعمون رصدها ليست كامنة في المشاهد نفسها، بل هي من نسج مخيلتهم ومن ضيق أفق أعينهم، تماماً كما تضيق الأفعى بسمّها إذا لم تجد من تفرغه في دم ضحيتها. هذه الفئة قد تدافع عن الشيطان نفسه إن اقتضت مصالحها ذلك، وتقف دائماً مع من يردد صدى صوتها، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة والعدل.
ولعل وصف سارتر يجد صداه هنا حين قال: “الآخرون هم الجحيم”. فبالنسبة لهؤلاء، لا يرى الآخر إلا كتهديد أو خصم أو مادة للاتهام، لا كشريك في البناء أو رفيق في الطريق. وهكذا، يبقى دورهم الأساس هو تغذية الانقسام، وإبقاء المجتمعات في دوامة من الشك والصراع، حيث لا يزدهر سوى خطابهم، ولا يربح في النهاية سوى سلطتهم.