طرَحت عملية طوفان الأقصى وحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة عشرات الأسئلة، التي تبدأ من التفكير في العملية نفسها والموقف منها ومن منفّذيها، ولا تنتهي عند التفكير في أبعاد الإبادة الإسرائيلية وتَبِعاتها. في هذا الملف نناقشُ بعضاً من تلك الأسئلة تباعاً، في سلسلة من المقالات التي تُقدِّم وجهات نظر متنوعة ومُتباينة، تتفاعل في جوانب منها مع الحكاية السورية في الطغيان ومقاومته، وذلك دفاعاً عن الحق في التفكير والسؤال والنقاش رغم الشرط الإبادي الرهيب و«الحتميات» التي يقتضيها.
*******
يَشيعُ في النقاشات بشأن حرب الإبادة الإسرائيلية أن يتمَّ تحميلُ حماس مسؤولية ما يجري في غزة، وأن يُرَدَّ على هذا بالقول إنه لومٌ للضحايا يُعفي إسرائيل من مسؤوليتها، سواء قصدَ أصحابه ذلك أم لم يقصدوا. يَنطلقُ هذا المقال من شَكٍّ في كلا الموقفين، ويسعى للتأمّل في النسيج المُعقّد من الأفكار والوقائع التي تقف خلفهما، في محاولة لنقاش سؤال المسؤولية في ظلِّ أوضاع كهذه.
في الطغيان ومقاومته
تُمارس إسرائيل طغياناً مفتوحاً على الشعب الفلسطيني منذ قيامها، فهي تحرم الفلسطينيين حقوقهم السياسية والإنسانية، وترتكب في سبيل ذلك شتى أنواع الجرائم من حصار واستيلاء على الأراضي وتهجير وقتل. ولا يمكن تبرير أفعال إسرائيل، ولا نفي صفة الطغيان عنها، إلا إذا اعتبرنا أن للفلسطينيين حقوقاً أقل من حقوق الإسرائيليين، وهو ما يعني عنصريةً ليس النقاشُ مع أصحابها موضوعَنا هنا.
فإذا اتفقنا أن للناس جميعاً حقوقاً متساوية، كان ما تفعله إسرائيل طغياناً، ثم كانت مقاومته أمراً مشروعاً، لكن الأهمَّ أنه أمرٌ محتومٌ بصرف النظر عن سؤال المشروعية، ذلك أن الناس لا يستسلمون لما يعتبرونه طغياناً إلّا عندما يعجزون عن مقاومته. يقاوم الفلسطينيون الطغيان الذي يتعرّضون له منذ عقود، وتَرُدّ إسرائيل على مقاومتهم في كل مرة بتصعيد أعمال القتل والانتهاكات والتدمير والتهجير.
هكذا تكون هذه الآلام كلُّها مسؤولية إسرائيلية تتحمّلها دولة الاحتلال مع حلفائها وداعميها، وتكون المقاومةُ ردَّ فعلٍ لا ينبغي لومُ أصحابه بحال. لكن هذه الخلاصة على ما فيها من وجاهة تحمل في داخلها تبسيطاً بالغ الخطورة، وهو ما ستحاول الأسطر التالية نقاشه.
في «المقاومة» ومسؤوليتها
تُبنى مقولة عدم جواز «لوم المقاومة» على فكرتين أساسيتين: أن إسرائيل استعمارٌ استيطانيٌ هو الذي يقتل ويُدمّر وهو الذي بدأ الطغيان أصلاً، وأن المقاومة ليست إلّا ردّاً طبيعياً على العدوان. أما الأولى فهي صحيحةٌ بدلالة الوقائع التي لا مجال إلى دحضها، وأما الثانية فهي التي تحتاج وقوفاً متأنياً قبل الأخذ بكل نتائجها.
يستخدم كثيرون هذه المقولة اليوم للردّ على كلّ نقدٍ يطالُ حماس وعملياتها، بما فيها عملية طوفان الأقصى، ما يعني أنهم يعتبرون أن «طبيعية» فعل المقاومة تضعُ أصحابه خارج كل نقد ومسؤولية، فكأنهم يعتبرون «المقاومة» شأناً من شؤون الطبيعة بالمعنى الحرفي للكلمة، أو نوعاً من ردود الفعل التي نَعرِفها في الفيزياء، حيث كل فعل يقابله ردُّ فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه.
لكن البشر بأفعالهم وردود أفعالهم ليسوا موضوعات فيزيائية، والأهمّ أن هذه المقاربة تمحو الفارق بين مقاومة العدوان غير المُخطَّط لها، من قبيل أن يُدافع أحدهم عن بيته ضد هجوم يتعرّض له، وبين أفعال المقاومة المُخطَّط لها، التي تمارسها جماعة مُنظَّمة لديها إيديولوجيا تبني مشروعها وشرعيتها من خلالها.
حماس ليست «ردّ فعل طبيعي» على العدوان، بل هي تنظيم مسلّح لديه حلفاء ومشروع سياسي، وسلطة يمارسها على سكّان قطاع غزة منذ نحو 17 عاماً، ولديه قبل ذلك وبعده داخل غزة وخارجها شبكات وخطابات وسياسات، تعمل عليها قيادةٌ لديها مطامح ومصالح وتكتيكات أوصلتها إلى كسب الانتخابات، وإلى التأثير بقوة في المسارات السياسية لشعب بأكمله.
ليس صائباً إدراجُ هذا كلّه في خانة «ردّ الفعل الطبيعي»، وهو قولٌ يقود إلى المُطابقة بين حماس بوصفها تنظيماً وبين «المقاومة» بوصفها فكرة مجرّدة، وبالتالي إلى وضع حماس خارج كل مُساءَلة تجاه شعبها، ذلك بينما تتنطّع حماس لقيادة مقاومة الشعب الفلسطيني، بل وحُكمه إن أمكنها، مع خطاب عام يسعى إلى التخفُّفِ من المسؤولية التي ينبغي أن يحملها من يريد «القيادة» و«الحُكم».
إسرائيل هي التي ترتكب الإبادة والجرائم، وهي التي تتحمّل المسؤولية السياسية والقانونية والأخلاقية، وينبغي محاسبة قادتها وإجبارها على السير في طريق سلام حقيقي ينتزع بنتيجته الفلسطينيون حقوقهم، ولا سبيل إلى ذلك طبعاً دون كفاح من جانب الشعب الفلسطيني. لكن التنظيمات والأحزاب التي تتصدّى لمهمات الكفاح والمقاومة مسؤولةٌ أيضاً، مسؤولةٌ عن دماء شعبها وتضحياته ومستقبله، ومسؤولةٌ عن رسم سياسات وانتهاج تكتيكات تُحقِّق أفضل نتائج ممكنة بأقل دماء وآلام مُمكنة.
في نتائج الاستقالة من المسؤولية
خططت كتائب القسّام ونفّذت عملية عسكرية ضخمة شارك فيها آلافٌ من مقاتليها، ويبدو أنها استعدّت جيداً وطويلاً لمقاومة اجتياح بري واسع والصمود في معركة طويلة، لكن الوقائع لا تُشير إلى أي استعدادات ناجحة أو حسابات عميقة تتجاوز ذلك: لا خطط بشأن مصير سكّان القطاع وكيفية تخفيف آلامهم، ولا حسابات دقيقة للأوضاع الدولية والظروف الإقليمية، ولا تخطيط لكيفية حصاد ثمار العملية سياسياً بما يصبّ في صالح عموم الشعب الفلسطيني.
ما الذي كان المخطّطون لطوفان الأقصى يتوقعونه بعد عملية بهذا الحجم غير المسبوق في تاريخ كفاح الفلسطينيين ضد الاحتلال؟ هل توقّعوا أسابيعَ من القصف والمعارك البرية ثم وقف إطلاق نار وتفاوض؟ لعلّ هذا ما ظنّوا أنه سيحدث، لكن ظنّهم لم يكن في محلّه، ونجحت إسرائيل في استغلال العملية للمضي في مشروعها لإبادة الشعب الفلسطيني وتدمير وجوده السياسي، وهم بالتالي مسؤولون تماماً عن فشل خططهم وتوقعاتهم بصرف النظر عن أي صمود عسكري لاحق.
كذلك يبدو أن الحركة لم تُفكّر في ضرورة تَجنُّب استهداف مدنيين في سياق عمليتها، وهو الأمر الذي ضَخّمته الآلة الإعلامية الإسرائيلية وأضافت عليه أكاذيب كثيرة لتبرير حربها الإبادية، لكن أحداً لا يستطيع إنكار وقوعه. ثمة أطفالٌ إسرائيليون تم فصلهم عن ذويهم والتفاوض عليهم، وهذه لوحدها جريمةٌ أياً يَكُن سياقُها وظرفُها. وقد حاولت حماس لاحقاً التنصُّلَ من مسؤوليتها عن استهداف مدنيين بالقول إن جهات أخرى فعلت ذلك، لكن هل كان مستحيلاً على حماس أن تتفادى ارتكاب جرائم ضد مدنيين في عمليتها؟ وهل يبدو صعباً إلى هذا الحدّ أن تلتزم حركة سياسية بمقتضيات حقوق الإنسان التي تطالب العالمَ بنصرة قضيتها استناداً لها؟ وهل يصعبُ اكتشافُ أن جهات كثيرة في العالم ستسغلّ كل انتهاك يرتكبه المقاومون للتنكيل بالشعب الفلسطيني أو لتبرير التنكيل به؟
وقبل ذلك وبعده، فإنه لا يمكن حصاد نتائج عملية بهذا الحجم وتوظيفها سياسياً لصالح الشعب الفلسطيني دون مشروع وطني فلسطيني جامع، وهو المشروع الذي تعرف حماس جيداً أنه لا وجود له، بل وكانت قد ساهمت بنشاط إلى جانب السلطة الفلسطينية وحركة فتح في تقويضه، بصرف النظر عن نسبة المسؤولية التي يتحمَّلها هذا الطرف أو ذاك. ويبدو جلياً أن غياب المشروع الوطني الفلسطيني يعني استحالةً شبه تامة في تحويل هذه الكارثة الرهيبة إلى فرصة للشعب الفلسطيني، ويعني أنّه يمكن أن تذهب هذه التضحيات العظيمة بما فيها تضحيات المُقاتلين سُدىً، وأنه على حماس أَخذُ هذا الأمر في حسبانها عند التخطيط لتحرُّكاتها.
تصرَّفتْ حماس في السابع من أكتوبر كما لو أن مسؤوليتها تنحصر في إطلاق النار بكفاءة، ويقع الباقي كله على عاتق الآخرين والعالم والحظّ وقوانين الطبيعة، في استقالة شبه تامة من المسؤولية السياسية. وهذا تفسيرٌ فيه كثيرٌ من حُسن النية، أما في أسوأ التفسيرات، فقد يمكن استنتاج أن الحركة لم تفكّر في غير تعزيز موقعها بإنجاز عسكري ونصر تفاوضي، وذلك لو أنها نجحت فعلاً في إجبار الإسرائيليين على التفاوض سريعاً، الأمرُ الذي لم يحدث.
لا معنى للتفتيش في النوايا هُنا، لكن الأفعال ونتائجها واضحة للعيان أياً تَكُن النوايا. لقد نجحت حماس عسكرياً بالقياس إلى ما هو مُتاح لتنظيم في منطقة محاصرة، لكنها فشلت في كلّ شيء آخر حتى الآن. ويتحدّث أكثر المتحمسين عن فائدتين عادت بهما عملية السابع من أكتوبر حتى اللحظة: الأولى عودةُ القضية الفلسطينية إلى النقاش السياسي بعد أن كان العمل جارياً على تجاهلها وتصفيتها، والثانية حركةُ تضامن عالمية واسعة. لكنه ليس معروفاً كيف يمكن أن يعود هذا بفائدة على قضية الفلسطينيين اليوم، ذلك بينما لا تستطيع حماس ببنيتها وخطابها وتاريخها أن تفعل الكثير على صعيد استثمار هاتين المسألتين وطنياً، حتى إذا خلصت نوايا قادتها.
في جدوى سؤال المسؤولية
لا تتحمّل قيادة حماس وحدها مسؤولية غياب مشروع وطني فلسطيني طبعاً، بل لعلّ سلطة عباس تتحمّل المسؤولية الأكبر على هذا الصعيد اليوم. كذلك لم تهبط حماس على الشعب الفلسطيني من السماء، وهي ليست ابنة المال القطري ولا الدعم الإيراني رغم أهمية الأخيرَين الحاسمة لاستمرارها، وهي ليست صانعة شروط الحصار والاحتلال والاستيطان والإبادة، ويشهد على ذلك ما يجري في الضفة الغربية وغيرها قبل السابع من أكتوبر وبعده، وقبل صعود حركة حماس في صفوف الشعب الفلسطيني وبعده. وقد يبدو صعباً التفكير في مدى مسؤولية حماس عن ما يجري، بينما تسمح الأوضاع الدولية والإقليمية بوقائع لا يمكن احتمالها، من قبيل ما قالته اليونيسف عن أنه يتمّ بتر أطراف أطفال بلا تخدير في غزة.
على هذا قد يبدو التفكير في سؤال المسؤولية مُرافَعة أخلاقية مجرّدة، ذلك بينما تتحكم بمصائرنا قوى ضخمة تقود العالم إلى مزيد من التدهور والتطبيع مع الإبادة والعنصرية، وبحيث تبدو قرارات أفراد حتى لو كانوا في قيادة فصيل مسلح مثل حماس مُجرَّدَ تفصيلات في لوحة كبيرة بالغة القتامة والدموية.
لكن هذه ليست مُرافعة أخلاقية مجرّدة ولا تفكيراً فلسفياً في المسؤولية الإنسانية، بل هي مُرافعة سياسية تهدف إلى التفكير في المُمكنات في ظلّ هذه اللوحة القاتمة، وفي الخطابات والبُنى التي أدت إلى إنتاج تنظيم قادرٍ على تنفيذ عمل عسكري ضخم في ظروف استثنائية بالغة الصعوبة، لكن دون إنجاز سياسي ملموس لصالح الشعب الذي يناضل ببسالة ويدفع دماءً عزيزة ويعيش آلاماً لا تُحتمَل.
نحتاج التفكير في سؤال المسؤولية لأن القوى التي تتصدّى للدفاع عن ضحايا العدوان ينبغي أن تكون مسؤولة سياسياً عن أفعالها، وإلّا فإنها ترتفع فوق السياسة فتصيرُ بدورها طغياناً عصياً على المُساءَلة، أو تنحطُّ إلى ما دون السياسية فلا يبقى من أفعالها سوى العنف العاري.
نحتاج التفكير في المسؤولية أيضاً لأن الخطاب الذي يرفض «لوم الضحايا» بات يخلط بين الضحايا؛ الذين لا ينبغي لومهم على ما وقع لهم طبعاً، وبين تشكيلات سياسية تُمارس سلطة وتعقد تحالفات وتحوز موارد في سياق النضال لأجل حقوق الضحايا. ليست حماس هي «الضحية» هنا، بل الشعب الفلسطيني، ويُفترَض أن «مُناضليه المُنظَّمين» في حماس وغيرها يناضلون أصلاً لانتشاله من وضعية الضحية، وليس لتكريسها واستخدامها سياسياً.
نحتاج أيضاً إلى التفكير في مرجعية المسؤولية السياسية؛ هل تشعر حماس والتنظيمات الإسلامية عموماً أنها مسؤولة تجاه شعبها؟ أم أن مرجعية المسؤولية بالنسبة لها ليست هنا في هذا العالم أصلاً؟ ثم كيف ترى تلك التنظيمات شعبها وكيف تُعرِّفه؟ كانت حماس في بدايتها بالكاد تعترف بالوجود السياسي للشعب الفلسطيني، وتنظر إلى فلسطين على أنها وقفٌ إسلامي، وقد تغيّرَ خطابها تدريجياً وصولاً إلى وثيقتها الأخيرة التي حملت ملامح خطاب وطني. لكن التجارب التي نعرفها عن التنظيمات الإسلامية لا تبشّر بكثير من الخير على هذا الصعيد. لقد انتصر حزب الله في 2000 ثم في 2006، وراح يقدّم خطاباً نظرياً مُطعَّماً بعناصر وطنية، لكن هذا التطعيم لم يمتدّ أبداً إلى الممارسات العيانية على الأرض، كما أن انتصارته الكبيرة تلك لم ترجع بفائدة على عموم اللبنانيين، وقد عرفنا نتائجها لاحقاً بأبشع صورة ممكنة في لبنان ثم في سوريا أيضاً.
مُحاكاة سوريّة
رغم الفوارق الكبيرة بين وضعية السوريين في مواجهة نظام الأسد ووضعية الفلسطينيين في مواجهة إسرائيل، فإنه لا يمكن تَجاهلُ ما بين الحكايتين من عناصر متشابهة، ذلك أن السوريين الثائرين على النظام واجهوا ويواجهون سلوكاً إبادياً، ولديهم فصائل إسلامية بتحالفات إقليمية، وواجهوا بُنية سياسية إقليمية وعالمية سمحت باستباحة حياتهم وحياة أهلهم، وفوق ذلك كان حُلفاء حماس في الإقليم شركاءَ في تحطيم حياة السوريين.
كثيراً ما دَفعَنا هولُ العنف الأسدي المدعوم بقوى كبيرة إقليمية وعالمية إلى السكوت، أو الارتباك على الأقل، في مواجهة التفكير في مسؤولية القوى التي تتصدى للأسديين. وبينما وصلَ عنفُ النظام حدَّ ارتكاب مذابح إبادية كما في البيضا ورأس النبع في بانياس مثلاً، كانت قوى متنوعة في صفوف المعارضة المسلّحة تبني سلطات وفصائل وشبكات بدعم من جهات إقليمية. وفي بعضٍ من أكثر المشاهد السورية رثاثة ويأساً، كانت فصائل إسلامية سورية تتصارع على السلطة في مناطق محاصرة أو مُستباحة من الجو، وكانت تتحدث عن احتقار «المساومات السياسية» في «أروقة المفاوضات والمجتمع الدولي»، بينما كانت تمارس سياسة بالغة العنف والتسلّط على الأرض، وتجد عُذرها في أنها «تقاوم» قوات النظام وحُلفاءَها على الجبهات، وتطلب صرف هذه المقاومة على شكل سلطة مؤقتة لم تحقّق شيئاً لأحدٍ غير قادتها ومشاريعهم.
ويبدو أنه في خلفية ذلك ذهنيةٌ أشاعها خطاب محور المقاومة المدعوم من إيران والنظام السوري في العقود الأخيرة، وتَقمصّتها جزئياً واستفادت منها فصائل إسلامية سورية مناهضة للنظام في محطات كثيرة، عندما كانت تُعلي من شأن القتال بوصفه فعلاً يمنع انتصار النظام، لكن دون أن يكون أصحابه موضعَ مُساءَلة عن تحقيق إنجازات لصالح قضية تَحرُّر السوريين وخلاصهم.
غنيٌ عن القول إنه يستحيل أن تتم مقاومة الطغيان، استعماراً استيطانياً كان أم استبداداً متوحشاً، بلا تنظيمات سياسية قد تحمل السلاح في ظروف بعينها، وهذه الأخيرة لا بدّ أن تحمل إيديولوجيا ما وأن يكون لها مشروعها. وبالتالي فإن الكلام أعلاه لا ينطلق من افتراض إمكانية قيام «حركات تحرّر» مُنزَّهة عن الإيديولوجيا والمطامح السياسية، بل من القول إنه ينبغي أن تكون هذه الأخيرة مسؤولة عن أفعالها، وإن الموقف منها لا يمكن أن يكون منفصلاً عن الموقف من مرجعياتها وسلوكها وخطابها.
في أثمان المقاومة وأساليبها
لا يدفع المقاومون الثمن وحدهم في أي حكاية نعرفها من حكايات الطغيان ومقاومته، بل يدفع المجتمعُ كلّه أثماناً تتباين بحسب طبيعة الطغيان ومقداره وبحسب طبيعة المقاومة ومقدارها. يعني هذا أنه لا معنى واقعياً لمحاولة تَصوُّر مقاومة بلا أثمان يدفعها المقاومون وأهلهم، لكنه يعني أيضاً أن أساليب المقاومة وسياساتها وتكتيكاتها أمورٌ تُغيّرُ كثيراً من حجم المعاناة، ومن الحصاد السياسي لهذه المعاناة أيضاً، وهنا تكمن مسؤوليتها بالتحديد.
لا يمكن لوم حماس على فعل المقاومة في ذاته، إلّا من باب المطالبة بالتزام النضال السلمي ونبذ اللجوء إلى السلاح، وهي مُطالَبةٌ لا يبدو أن لها حاملاً موضوعياً على الأرض رغم معقوليتها الأخلاقية. ومن المفيد على كل حال أن نتذكر الردّ الوحشي الإسرائيلي الرهيب على مسيرات العودة السلمية من غزة، كي نُذكِّرَ فقط بأن الشعب الفلسطيني جرّبَ أنماطاً من النضال السلمي مراراً. كذلك لا يمكن لوم حماس على حجم الوحشية الإسرائيلية، فهذه يُسأل عنها مرتكبوها في تل أبيب وحلفاؤهم في عواصم العالم.
أما ما يمكن لوم حماس عليه، فهو أنها تنتهج تكتيكات عسكرية متهورة بلا ظهير سياسي يُعوَّل عليه ولا إعداد معقول لتخفيف آلام السكّان، وأنها لا تحمل مشروعاً يجعل من معاركها قابلة للصرف وطنياً، وأنها تحمل إيديولوجيا إقصائية فئوية لا تستقيم مع مطلب التحرّر الوطني، وأنها تسلك سلوكاً تسلطياً على الأرض يهمّش قوى المجتمع الحية ويصادر فعاليتها وقرارها.
مهما كان الشرط الإبادي رهيباً ومفتوحاً على الاستدامة، بل لأن الشرط الإبادي رهيبٌ ومفتوحٌ على الاستدامة، فإنه لا بد من الانتقال من «مقاومة الطغيان» إلى العمل على تفكيك شروطه. وليس الطريق إلى ذلك معلوماً ولا مضموناً، لكن لعلّه يمرّ عبر الانتقال من مقولة «المقاومة» إلى مقولة «الكفاح من أجل التحرّر الوطني»، غير أنه في كلّ حال لا يمرّ عبر مقاومة تكتفي بإطلاق النار، ثم تتذرّع بتضحيات مقاتليها لبناء سلطات لا تُخطّط لأكثر من بقائها.