لم تكن غزة يومًا مجرد ساحة مواجهة عسكرية، بل كانت وستبقى قلبًا نابضًا لشعب بأكمله. وما شهدته خلال الشهور الماضية لا يمكن فصله عن سياقه الإنساني والوطني العميق؛ آلاف الشهداء، عشرات الآلاف من الجرحى، مدن مدمّرة، ووجع تجاوز قدرة الناس على الاحتمال. أمام هذا المشهد الثقيل، يصبح واجب الكلمة الوطنية ليس رفع الصوت للمزايدة، بل حماية الإنسان الفلسطيني، وصون المعنى الوطني من الضياع.
في خضم هذه المرحلة الصعبة، أدلى رئيس المكتب السياسي في الخارج لحركة حماس، خالد مشعل، بتصريحات تحدث فيها بوضوح عن إمكانية محاورة الولايات المتحدة، وعن هدنة طويلة الأمد، بل وعن ترتيبات تتعلق بالسلاح ضمن اتفاق سياسي. هذا الطرح، بغض النظر عن الموقف منه، يعكس تحولًا ملحوظًا في الخطاب، ويستدعي قراءة هادئة ومسؤولة، بعيدًا عن الهجوم أو التصفيق.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا لا يستهدف أشخاصًا بعينهم، بل يتوجه إلى المسار برمّته: إذا كان الانخراط في مشروع سياسي، والحوار مع المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة، خيارًا مطروحًا اليوم، فلماذا جرى على مدى سنوات محاربة هذا النهج وتجريمه؟ ولماذا انزلقت القضية الفلسطينية إلى انقسام حاد، ودفع شعبنا أثمانًا باهظة، بينما كان من الممكن إدارة الخلاف ضمن إطار وطني جامع يحفظ وحدة الصف والقرار؟
منذ البداية، كانت رؤية حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، بقيادة الرئيس محمود عباس، واضحة وصريحة. فقد انطلقت من قراءة واقعية لموازين القوى، تدرك أن الشعب الفلسطيني لا يملك القدرة على خوض مواجهة عسكرية مفتوحة مع الاحتلال، ولا يحتمل مغامرات كبرى غير محسوبة. لذلك طُرح خيار المقاومة الشعبية الشاملة، طويلة النفس، المرتكزة على صمود الناس وحماية حياتهم، والمترافقة مع نهج الحوار والعمل السياسي والدبلوماسي، بوصفه طريقًا متدرجًا نحو إحقاق الحق الفلسطيني، لا استنزافه.
لم تكن هذه الرؤية يومًا تخليًا عن الحقوق أو انتقاصًا منها، بل محاولة لحمايتها بأقل كلفة ممكنة، انطلاقًا من قناعة فتحاوية راسخة بأن الإنسان الفلسطيني هو رأس المال الحقيقي للنضال، وأن الدم لا يجوز أن يكون وسيلة لاختبار المواقف أو إثبات النيات.
ومع تصاعد الحديث عن ترتيبات سياسية وأمنية في مرحلة ما بعد الحرب، يبرز تساؤل وطني مشروع حول وظيفة السلاح ودوره وحدوده، وحول العلاقة بين أدوات النضال والأفق السياسي الذي يجب أن يخدم الهدف الوطني لا أن يثقل كاهله. فالقضية الفلسطينية، في جوهرها، ليست اختبار قوة، بل معركة وجود وحقوق.
بعد كل هذا الدمار، يبدو أن الواقع يعيد فرض حقيقة طالما أكدت عليها حركة فتح: أن السياسة ليست نقيض المقاومة، بل إطارها العاقل، وأن أي فعل نضالي بلا أفق سياسي وطني واضح يتحول مع الوقت إلى عبء على شعبنا قبل أن يكون عبئًا على خصمنا. كما أن غياب الشراكة الوطنية، واحتكار القرار، يقودان حتمًا إلى طرق مسدودة، يدفع المواطن البسيط ثمنها وحده.
هذا الكلام ليس دعوة لتسجيل نقاط ولا محاولة لتصفية حسابات، بل نداء وطني صادق يدعو إلى العودة إلى منظمة التحرير الفلسطينية إطارًا جامعًا، وإلى وحدة القرار والتمثيل، وإلى تقديم مصلحة الشعب فوق مصلحة التنظيم، حفاظًا على ما تبقى من قضيتنا من طوفان جديد لا يحتمل شعبنا كلفته.
ففلسطين لا تُبنى بردّات الفعل، ولا تُحمى بالشعارات المتغيرة، بل تُصان حين تتقدم الحكمة، ويُعاد الاعتبار للمشروع الوطني الذي وُجد ليحمي الشعب، لا ليختبر قدرته على الاحتمال







