العالم على حافة التحوّل: تحالف ترامب وبوتين يُهدد أسس النظام الدولي وأوروبا تُصارع مصيرها*

بن معمر الحاج عيسى

 

في قاعة الاستقبال بالبيت الأبيض، حيث تُعلّق صور الرؤساء السابقين كشهود صامتين على تقلبات التاريخ، وقف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مذهولًا. المشادة العلنية التي اندلعت بينه وبين دونالد ترامب لم تكن مجرد لحظة إحراج دبلوماسي، بل كانت شرارة تكشف عن زلزال جيوسياسي قادم. فتحالفٌ غير متوقَّع بين الرجلين الأكثر إثارة للجدل في العالم – ترامب وبوتين – بدأ يلوح في الأفق، حاملًا معه أسئلةً مصيرية: هل تشهد أوروبا نهاية عصرها كقوة عظمى؟ وهل أصبحت أوكرانيا ورقة مساومة في لعبة أكبر؟

منذ سنوات، ظلَّت العلاقات الأمريكية-الروسية ساحةً للصراع الخفي، من حروب بالوكالة إلى عقوبات اقتصادية قاسية. لكن المفارقة التاريخية تكمن في أن الرجل الذي وُصف بـ “العدو رقم واحد” لواشنطن – فلاديمير بوتين – قد يجد فجأةً حليفًا في الرئيس الأمريكي السابق، الذي يَعِدُ بالعودة إلى البيت الأبيض عام 2024. تصريحات ترامب الأخيرة، التي هاجم فيها الحلفاء الأوروبيين ووصف الدعم العسكري لأوكرانيا بأنه “إهدار للمليارات”، لم تكن صادمةً فقط لكييف، بل لأوروبا التي بدأت تستشعر أن سندها التقليدي يتحوَّل إلى شريكٍ في لعبة روسية.

المشهد الأكثر إثارةً للقلق يتجلى في العاصمة الأوكرانية، حيث تتهاوى الثقة في الغرب. فبينما كان زيلينسكي يُلقَّب بـ “بطل المقاومة الأوروبية”، أصبح اليوم يُنظر إليه في واشنطن كـ “عبء سياسي”. مصادر دبلوماسية تُشير إلى أن ترامب أرسل رسائل غير مباشرة عبر وسطاء مفادها أن “أوكرانيا يجب أن تتفاوض الآن قبل فوات الأوان”، في إشارةٍ إلى قبول شروط قد تمنح موسكو نفوذًا أوسع في المنطقة. التصريحات الغامضة لوزارة الخارجية الأمريكية – التي وصفت اللقاء بـ “غير القابل للتفسير” – عززت شكوكًا بأن واشنطن تَمرُّ بمرحلة إعادة حساب استراتيجي جذرية، قد تُعيد رسم خريطة القارة العجوز.

لكن القصة لا تتعلق فقط بأوكرانيا. ففي أعماق واشنطن، تُخاض معركة وجودية بين ترامب و”الدولة العميقة”، تلك الشبكة الخفية من المؤسسات والنخب التي ظلَّت لسنوات تحكم من خلف الستار. هجوم ترامب الأخير على اللوبي الصهيوني، واتهامه لبعض حلفائه السابقين بـ “الخيانة”، يكشف عن تحوُّلٍ دراماتيكي في التحالفات الداخلية. غياب جاريد كوشنر، مهندس العلاقات مع إسرائيل خلال ولاية ترامب الأولى، وظهور دعمٍ علني من شخصيات مثل إيلون ماسك، يُشير إلى أن الرجل الذي هزَّ العالم بتحالفه مع النخب التقليدية، يبحث الآن عن حلفاء جدد في عالم التكنولوجيا والطاقة، بعيدًا عن مراكز القوى القديمة.

في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، تتصاعد أنفاس القارة العجوز بقلق. فالدعم الأوروبي لأوكرانيا، الذي بدأ كصرخة تضامن مع “ضحايا العدوان الروسي”، يتحوّل اليوم إلى معضلة وجودية. التصريحات الحازمة لقادة مثل دونالد توسك – “لست وحدك” – تبدو كصرخة في وادٍ، أمام حقيقة أن ميزانيات الدفاع الأوروبية لا تستطيع تعويض الانسحاب الأمريكي. المفارقة المؤلمة تكمن في أن أوروبا، التي أرادت ذات يوم أن تكون قوة عظمى مستقلة، تجد نفسها اليوم عالقة بين مطرقة التهديد الروسي وسندان التخلي الأمريكي.

أما في موسكو، فالمشهد يبدو مختلفًا. الضحكة المقتضبة لبوتين خلال إحدى مؤتمراته الصحفية، والتعليقات الساخرة لوزارة الخارجية الروسية على “ضبط النفس” الذي أظهره ترامب تجاه زيلينسكي، تكشف عن ثقةٍ متزايدة بأن الحرب في أوكرانيا ستنتهي لصالح الكرملين. الخبراء الاستراتيجيون هنا يُرددون بسعادة أن “الغرب ينفجر من الداخل”، فيما تَعتبر أوساط مقرّبة من الكرملين أن تحالف ترامب-بوتين ليس مجرد خيار سياسي، بل ضرورة استراتيجية لمواجهة الخطر الصيني المشترك.

لكن هل يُمكن لهذا التحالف أن يصمد؟ التاريخ يُعلّمنا أن المصالح المتقلبة للسياسة الدولية قد تحوّل الأعداء إلى أصدقاء بين عشية وضحاها، لكن التوترات القديمة نادرًا ما تختفي. فترامب نفسه، الذي يمدح بوتين اليوم، هو نفس الرجل الذي زاد من العقوبات على روسيا خلال ولايته. وبوتين، الذي يراه البعض شريكًا محتملًا لواشنطن، لا يزال يُعتبر في الأوساط الأمنية الأمريكية “العدو الذي لا يُؤتمن”.

التساؤل الأكبر يبقى: ماذا لو تحقق هذا التحالف؟ المحللون العسكريون يرسمون سيناريوهات مرعبة لأوروبا التي قد تجد نفسها محاصرة بين روسيا القوية وأمريكا التي ترفض إنقاذها. فمن دون المظلة النووية الأمريكية، ومن دون دعم الناتو، قد تتحوّل الحدود الشرقية للقارة إلى ساحة مواجهة مفتوحة. أما أوكرانيا، التي دُمرت مدنها وبُترت أحلامها، فستصبح مجرد سطر في كتب التاريخ عن حربٍ كانت ضحيةً لتحالفات كبرى.

في النهاية، قد لا تكون هذه القصة مجرد صراع على أوكرانيا أو حتى أوروبا، بل مشهدًا من فصول انهيار نظام عالمي بُني بعناية منذ نهاية الحرب الباردة. العالم الذي عرفناه – حيث تهيمن أمريكا، وتتقاتل القوى العظمى في الخفاء – قد يشهد انقلابًا دراماتيكيًا. والسؤال الذي ينتظر إجابة: هل سنشهد ولادة نظام دولي جديد… أم فوضى عارمة تَجُرُّ الجميع إلى الهاوية؟

تابعنا عبر:

شاهد أيضاً