منذ أن تفتّحت الوعيّات الأولى في هذه الرقعة الممتدة من المحيط إلى الخليج، ظلّ سؤال الهوية العربية سؤالاً مُعلَّقاً، يتأرجح بين اليوتوبيا القومية الموعودة والديستوبيا المعيشة التي فرضتها مشاريع التفتيت والتبعية. فالعروبة ليست مجرّد شعار سياسي ولا حُلم شعري يتردّد في قصائد الحماسة، بل هي بنية أنطولوجية حضارية، تتجاوز الجغرافيا الضيقة لتصبح هوية ثقافية، إنسانية، وتاريخية جامعة.
ولذلك قال الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري: “العروبة ليست بدعة أيديولوجية، بل هي انتماء أصيل صاغته اللغة والتاريخ المشترك.”، فيما رأى المؤرخ عبد العزيز الدوري أنّ العروبة هي “المحور الذي دارت حوله تجارب العرب في مختلف مراحلهم الحضارية.”
أولاً: العروبة بين التحرر والتشويه:
ارتبطت العروبة منذ نشأتها الحديثة بحركات التحرر القومي، من مواجهة التتريك العثماني، إلى مقاومة الاستعمار الأوروبي، وصولاً إلى التصدي لأشكال الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية المعاصرة. إنها – بتعبير ساطع الحصري – “رابطة الدم واللغة والتاريخ والمصير المشترك”.
غير أنّ هذه الهوية لم تسلم من محاولات التشويه:
التهمة بالشوفينية والتعصب العرقي، في تجاهل لحقيقة أن العروبة لم تنغلق يوماً على ذاتها، بل احتضنت الفرس والترك والأمازيغ، ممن صاروا جزءاً من نسيجها الحضاري.
محاولة نزع الفضل الحضاري عنها، وإرجاع كل إنجازات الحضارة الإسلامية إلى غير العرب، رغم أن أسماء مثل الخوارزمي، الفارابي، ابن سينا، الفاروق عمر، ابن رشد، الجاحظ، الفراهيدي، شكّلت أعمدة لا غنى عنها في بناء العقل الإنساني.
التفتيت الطائفي والعرقي المعاصر، حيث يُقدَّم العراق ولبنان وسوريا واليمن وليبيا كفسيفساء من الطوائف المتناحرة، بينما يتم التعتيم على العروبة كهوية كبرى قادرة على استيعاب الجميع.
ولعلّ وصف البعض للعرب بـ “العُربان” ليس إلا محاولة لتجريدهم من عمقهم الحضاري، وإرجاعهم إلى صورة البداوة البدائية.
_ثانياً: العروبة كهوية ثقافية متجددة:
العروبة لم تولد مع الأحزاب السياسية، بل هي أقدم من الحدود الحديثة وأسبق من الأديان. فهي لغة وثقافة وهوية شعورية؛ فاللغة العربية – كما يقول إدوارد سعيد – “ليست مجرد أداة للتعبير، بل هي مستودع للذاكرة ووسيط للهوية.”
ولذلك أنشد زهير بن أبي سلمى منذ الجاهلية:
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُهُ
فلم يَبقَ إلا صورةُ اللحمِ والدمِ
بهذا المعنى، فالعروبة ليست جداراً صلداً بل نسيجاً حيّاً يتفاعل مع الحضارات الأخرى، مثلما تفاعلت في العصر العباسي مع الفرس واليونان والهنود، لتُنتج ما سمّاه رينان “أعظم معجزة عقلية في التاريخ”.
_ ثالثاً: أزمة العروبة في الحاضر
_الواقع العربي الراهن يكشف عن أزمة هوية:
_صعود الهويات الفرعية (الطائفية، الإثنية، القبلية) على حساب الهوية الجامعة.
_تأثير المثقفين المتغربين الذين يردّدون خطاب الاستشراق الجديد حول “فشل القومية العربية”، متجاهلين أن هذا الفشل سياسي بالدرجة الأولى وليس حضارياً.
الهيمنة الصه يونية والاستعمارية، حيث يُفرض الكيان الصهيوني بوصفه “دولة يه ودية” لتبرير نفي عروبة فلسطين أرضاً وإنساناً.
_رابعاً: نحو مشروع نهضوي عربي جديد:
إنّ الخروج من هذه الأزمة يستلزم إعادة الاعتبار للعروبة كمشروع جامع يقوم على:
_1. التحرر السياسي من الهيمنة والتبعية.
_2. التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية.
_3. الوحدة القومية القائمة على المصالح المشتركة.
_4. الديمقراطية وحقوق الإنسان باعتبارها شرطاً للتحديث.
وهنا نستحضر قول أنطون سعادة: “لا قومية بلا حرية، ولا حرية بلا عدالة، ولا عدالة بلا نهضة.”
_خاتمة:
يبقى السؤال الحارق: هل تظل العروبة مجرّد ذكرى منسية في كتب التاريخ، أم ستعود لتكون مشروعاً نهضوياً قادراً على مواجهة التمزق والتبعية؟
الجواب، كما يقول مالك بن نبي، يتوقف على إرادة الإنسان العربي: “المجتمع لا يولد من ركام الماضي، بل من وعي الحاضر وإرادة الفعل.”
العروبة إذاً ليست شعاراً يُرفع، ولا حزبا يُستنسخ، بل هي قدرٌ حضاري وهوية أنطولوجية، إما أن ننهض بها إلى مستقبل يليق بتاريخنا، أو نتركها نهباً للتفكك والتيه.