العقائديّة التي تعمي الرؤى الاستراتيجيّة

مصطفى علوش

“وكُنتُ إِذا سَأَلتُ القَلبَ يَوماً      تَوَلّى الدَمعُ عَن قَلبي الجَوابا

وَلي بَينَ الضُلوعِ دَمٌ وَلَحمٌ        هُما الواهي الَّذي ثَكِلَ الشَبابا

وَلا يُنبيكَ عَن خُلُقِ اللَيالي        كَمَن فَقَدَ الأَحِبَّةَ وَالصَحابا

أَخا الدُنيا أَرى دُنياكَ أَفعى         تُبَدِّلُ كُلَّ آوِنَةٍ إِهابا”

أحمد شوقي (سلوا قلبي)

 

لطالما أتخمنا الخبراء الاستراتيجيون الذين نبتوا على مدى العقود الماضية بالحديث عن المقاومة والممانعة وبعدها الاستراتيجي، في الدنيا وفي الآخرة، من نموّ مجموعة البريكس الاقتصادية، ودور إيران المحوري سياسياً وجغرافياً في تجذير وتمنيع هذه المجموعة لتقف في وجه الهيمنة الغربية على الاقتصاد والسياسة العالمية، وبالتالي عن أفول مجدها. هؤلاء كانوا يعيّروننا، لا بل يستصغرون عقولنا، كملتزمين بأولوية حياة الناس والأفراد على الرؤى الاستراتيجية والعقائدية والماورائية، محتقرين حياة الناس وسعيهم إلى قوتهم اليومي ومستقبل أولادهم، لأنّها مجرّد تفاصيل تافهة في مواجهة ما هو استراتيجي، وما هو مرتبط بحجم القوى الكونية، وأحياناً ما فوق الكونية، المنضوية في حمأة الصراع. بعض هؤلاء كانوا يستخدمون مجموعة من المحفوظات الملقّنة مسبقاً بشكل متقن، وبلغة بليغة أحياناً، والبعض الآخر كانوا يستندون إلى دراسات من الأصدقاء والأعداء، ويستنتجون من خلالها ما هو ثابت سلفاً بالنسبة لهم، وهو أنّ مشروع الممانعة منتصر لا محالة.

هؤلاء يصنّفون في نوعين، نوع مرتزق غير مقتنع بالضرورة بصحّة وصوابية ما يقوله، لكنّه يريد المحافظة على مصدر رزقه، وهو عادة الأدهى والأفطن. ونوع آخر عقائدي تلقّن الحقيقة المطلقة على يد الملقّنين المحترفين الذين يستندون إلى أدبيات جامدة غير قابلة للنقض أو الانتقاد، فتنهمر الكلمات والجمل منهم كالمطر بغضّ النظر عن الموضوع المطروح للنقاش. هؤلاء أيضاً يصنّفون كلّ من يطرح التساؤل المنطقي على صواب ما يثرثرون به عميلاً أو خائناً أو غبيّاً أو كافراً أو ما شاء الله من تعابير تستمطر اللعنات وتهدّد بالويلات. كما أنّهم قادرون على تغيير كلّ حجّة أو دراسة تنقض طروحاتهم وتحليلاتهم بما يثبت قولهم بحجج مثيرة للشفقة. المصيبة تقع عندما يتولّى هؤلاء أو من يشبهونهم مصير البلاد والعباد، فتقع ضحية الغباء الاستراتيجي في مصائب لا حصر لها، أكان في الأمن أو الاقتصاد، والمصيبة أنّ هؤلاء الجهلة عندما يصعدون على المنابر أو وراء الشاشات يتحوّلون إلى عارفين بكلّ الأمور، فيشرحونها بيقينيّة عجيبة، في وقت يتريّث أكثر الخبراء والمختصّين بتلك المواضيع في إصدار توقّعاتهم أو تحليلاتهم بحذر شديد حرصاً على الموضوعية.

الطوفان وسفينة نوح

زميل لي طبيب كانت معلوماته تستند إلى مجلّة “طبيبك” الموجّهة للعموم، وكان يفحم الزملاء الذين لا يتابعون المستجدّات الطبّية بدراسات خنفشارية مصدرها غير موثّق ولا علمي. استمرّ هذا الحال إلى أن أصبحت الدراسات متاحة للجميع، وأتى من يسفّه كلامه بناءً على دراسات جادّة، فأُسقط بيد زميلنا، ولم يعد أحد يتجمّع حوله في كافيتيريا المستشفى ليستمع إلى أحاديثه. المهمّ أمام الترهات العقائدية والشطحات التحليلية الفارغة أن يكون هناك من يواجهها بالحجج والمنطق حتى لا يظنّ المشاهدون والسامعون أنّ الحق مع من يفرغ على الناس الكلام كرشق من صواريخ الكاتيوشا.

ما لنا ولكلّ تلك المقدّمات التي قد يجدها البعض غير لازمة، فالحديث اليوم هو عن رؤيا لم يرَها محلّلو الممانعة، خارج إيران، وإن لاحظوها فهم يتجنّبون الحديث عنها، أو يحلّلونها، كالعادة، بعكس مغازيها لتخدم يقينيّاتهم. لا شكّ أنّ حماس السنوار استندت إلى دراسة استراتيجية من محلّلي الممانعة في عملية طوفان الأقصى. قناعتي هي أنّ هذه العملية ستدخل المنطقة في طوفان عامّ أشبه بطوفان نوح، ثمّ يخرج منها الصالحون على سفينة النجاة. قد لا يكون عتب على السنوار في خياراته وحساباته المستندة إلى تطمينات الممانعة، فهو الغريق فما خوفه من البلل؟ لا نقاش في أنّ نتنياهو كان ينتظر، لا بل يتمنّى، أيّة إشارة عنيفة فلسطينية لتحقيق رؤياه التوراتية الطابع ليكون يشوع بن نون وهو يحاصر أريحا، ويتحوّل من منبوذ سياسي وهارب من العدالة إلى نبيّ جديد لإسرائيل. لكن ما لا نقاش فيه، إلّا لمن هم من غير ذوي الألباب، هو أنّ إيران، منذ اللحظة الأولى، تنصّلت من واجباتها ووعودها بفتح أبواب جهنّم على إسرائيل. صحيح أنّ جماعة إيران المتعدّدين في المشارب والمواهب والمواقع هبّوا لحرب المشاغلة، ومن الجحود القول ببطلان تأثيرها أو الاستهانة بتداعياتها، لكنّها حتماً كانت منذ سنوات طويلة في حسابات العدوّ، ولربّما كان يتمنّاها للخروج من حلقة التهديدات المفرغة التي تحدّثت عن قدرة الممانعة، وإيران الوليّ الفقيه بالذات، على إفناء إسرائيل، ببضع دقائق أو ساعات أو أيام، أو بالصبر الاستراتيجي الذي قد يميت العدوّ ضجراً. من هنا، دخل مشروع الممانعة في دوّامة الوعود الصادقة بوحدة الساحات، في حين أنّ حسابات إيران الدولة والإمبراطورية كانت في كيفية تمرير العاصفة بأقلّ قدر من الضرر. لكنّ حجم العاصفة ومداها الزمني فاقا القدرات على الصبر الاستراتيجي بمواجهة الخبث الجهنّمي للعقل الصهيوني.

العبرة في مقتل رئيسي

لكن في خضمّ العاصفة لم يقرأ الكثيرون من محلّلي الممانعة العبر من حدث مقتل رئيس إيران إبراهيم رئيسي، وهو الحدث الذي لم تحسم أسبابه حتى هذه اللحظة من حيث كونه حادثاً مأساوياً أو جريمة اغتيال مدبّرة. وإن كان جريمة فلا يمكن تأكيد من وراءها: هل هو من داخل أروقة ولاية الفقيه أم مراكز قوى أخرى في داخل إيران، أم كان جزءاً من مخطّط متعدّد الرؤوس محلّي ودولي؟ كلّها احتمالات ممكنة، وقد تكون هناك احتمالات أخرى لا أدّعي أنّني أستطيع حصرها بقدراتي المتواضعة. لكنّ الأهمّ هو ما حصل بعد غياب رئيسي المتشدّد ثورياً، فبدل أن يتمّ انتخاب رئيس من المعسكر الثوري لاستكمال مسيرة الشهيد، سمحت دوائر ولاية الفقيه بانتخاب رئيس غير ثوري أعاد الطاقم الإداري المتّهم بميله للتفاهم مع الغرب. فجأة رأينا العمليات الصهيونية تأخذ طابعاً شديد العدائية في لبنان، وبدا وكأنّ إسرائيل أخذت الضوء الأخضر، إمّا لعلمها بأنّ إيران أصبحت في معسكر آخر خارج الممانعة، أو لأنّ الغرب تحسّس ضعفاً في ثورية إيران أراد استغلاله لتحصيل المزيد من التنازلات.

كنت قد أكّدت في الأسبوع الماضي أنّ إيران لن تردّ على الضربات المتتالية لجماعتها ولقادة فصائلها، وعلى الرغم من محاولة الرصاص المتطاير الذي سقط على رؤوس الناس في بيروت إقناعي أو إقناع جمهور الحزب بعكس ذلك، فأنا مصرّ من جديد، على الرغم من الصواريخ البالستية التي سقط بعضها في الأراضي المحتلّة، على أنّ إيران لن تردّ على الصفعات المذلّة التي تلقّتها لأنّ خيارها الاستراتيجي، الذي لم يفهمه منظّرو الممانعة، هو أنّ ولاية الفقيه اقتنعت بالتواضع والعودة إلى منطق الدولة ومصلحة النظام والاستمرارية، بدل المغامرات الثورية غير المضمونة النتائج، التي وصلت إلى ما أوصلت إليه إيران وحلفاءها. ما حصل من ردّ، وما قد يحصل من قبل الصهاينة، سيبقى في إطار الخيارات المدروسة بعناية حتى لا يموت الديب ولا يفنى الغنم، فإيران تحترم نهج معاوية بخصوص شعرته التي لا تنقطع، وإن كرهته عقائدياً.

 

قد يكون من المستحيل حتى هذه اللحظة إقناع ممانعتنا المحلّية ومناضليها الذين تربّوا على أبدية مشروع ولاية الفقيه، وأصبح وجودهم مرهوناً بديمومتها، بأنّ الدفّ انفخت وتفرّق العشّاق! فالحزب اليوم يعلم علم اليقين أنّه غير قادر ولا مؤهّل ليتحوّل إلى حزب سياسي لأسباب بنيوية وعقائدية، وأعدّ العدّة للاستمرار في ظروف تشبه ما يحدث اليوم، لكنّ المصيبة هي أنّ الصهاينة حسبوا هذه الحسابات أيضاً. هذا يعني أنّ المستقبل المنظور هو استمرار الموت والدمار للبنان إلى أن نصل إلى واقع واحد هو العودة إلى الدولة على الرغم من هزالها والاحتماء بشرعية الدستور والمصلحة العربية والقرارات الدولية، فمن هو الشجاع الذي سيختار أن يختصر رحلة الآلام؟

نقلا عن اساس ميديا

شاهد أيضاً