العقد الاجتماعيّ بين وهم الإجماع وحقيقة الاستعباد:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين .

نقد فلسفي لاستعارة الحداثة ومآلاتها العرقية:
— بين الأسطورة السياسية والواقع التاريخي.
منذ بدايات الحداثة السياسية، أُعلِن عن ولادة الإنسان كمواطنٍ حرّ، متساوٍ، يشارك في صياغة مصيره عبر ما عُرف بـ”العقد الاجتماعي”. هذا المفهوم الذي بدا حينها ثورياً، حرّر الإنسان من وصاية الميتافيزيقا الدينية ليمنحه سلطة التعاقد، أي القدرة على تأسيس النظام السياسي على إرادة الأفراد الحرة. غير أن هذا الخطاب، كما يشير المفكر السياسي تشارلز ميلز، لم يكن يوماً بريئاً أو شفافاً، بل أخفى في طياته جهازاً أيديولوجياً متحيزاً، يعمل على تبرير الإقصاء العرقيّ والاستعمار الإمبرياليّ تحت ستار من التوافق والمساواة.
_ من روسّو إلى رولز: الإجماع المؤسس على الاستثناء.
يقدّم جان جاك روسّو في “العقد الاجتماعي” رؤيته للمجتمع بوصفه كياناً ناشئاً من إرادة عامة تتجاوز المصالح الفردية، حيث لا يكون أحد فوق القانون لأن الجميع خاضع له. وهي فكرة ستُلهِم لاحقاً كانط في مشروعه الأخلاقي حول الحكم الجمهوري، كما ستجد امتداداً نفعياً في ليبرالية جون رولز، الذي افترض حالة أصلية يتعاقد فيها الأفراد خلف “حجاب الجهل” على مبادئ العدالة.
لكن ما يكشفه ميلز في كتابه “العقد العرقي” (The Racial Contract) هو أن هذا التوافق المزعوم لم يشمل الجميع قط. لقد كان هناك، على الدوام، من هو خارج “دائرة العقد”، مستبعداً لا بسبب إرادته، بل بسبب “عرقه” أو “أصله”. لم يكن العقد إذن سوى أسطورة بيضاء، كما يسميها ميلز، تُخفي منطق الغلبة لا منطق المساواة..
— نقد ميلز: العقد العرقيّ كنسق للهيمنة.
يرى ميلز أن ما يسمى بـ”العقد الاجتماعي” ما هو إلا واجهة أيديولوجية تُخفي “عقداً عرقياً” فعلياً، تأسس على قاعدة إخضاع غير البيض، وسلبهم كل إمكانية للتعاقد الحر. فبينما يُقدَّم الإنسان في النظرية الليبرالية ككائن عقلاني حرّ، فإن ملايين البشر كانوا يُقصون تلقائياً من صفة “الإنسان الكامل”، لكونهم سوداً أو سكاناً أصليين أو مستعمرين.
يقول ميلز: “العقد العرقي هو الذي يصنع العالم كما نعرفه اليوم، وهو الذي يُشرعن العنف البنيوي ضد من هم خارج دائرة الاعتراف.” وهكذا، فإن ادعاء المساواة، في نظره، لم يكن إلا قناعاً يغطي مشروعاً استعمارياً – أبيض – اختطف مفهوم العقل ذاته، وجيّره لصالح سردية الغرب.
— كانط والعنصرية المستترة في العقلانية التنويرية.
من المثير أن أحد أبرز المنظرين للعقد الأخلاقي والكرامة الإنسانية – إيمانويل كانط – قدّم، في نصوصه الأنثروبولوجية، تمييزات عنصرية واضحة، مفضّلاً “العرق الأبيض” بوصفه الأرقى عقلاً وأخلاقاً. وهنا يتجلى التناقض الفاضح بين العقل التنويري وممارساته الخطابية تجاه “الآخر”.
فكما تشير المفكرة سيلفيا وينتر، فإن “الإنسان” في الفلسفة الغربية لم يكن قط مفهوماً كونيّاً، بل تمّ بناؤه على هيئة “الرجل الأوروبي الأبيض”، فيما حُذفت بقية الهويات من مشهد التمثيل السياسي والفلسفي.

— إعادة التفكير في شروط التعاقد: نحو عقد متعدد الأصوات.
إن النقد الذي يقدمه ميلز لا يهدف إلى نسف فكرة العقد الاجتماعي من جذورها، بل إلى فضح تواطئها مع أنظمة التمييز، وإعادة التفكير في شروطها الأخلاقية والسياسية. فالعقد، لكي يكون عادلاً، لا بد أن يُبنى على اعتراف متبادل لا على إقصاء مقنّع، وعلى تفاوض حقيقي لا على فرض مهيمن.
وفي هذا السياق، تتقاطع دعوة ميلز مع أطروحات فكرية معاصرة – من بينها أكسيل هونيث في فلسفة الاعتراف، ونانسي فريزر في نقد التوزيع والتمثيل – حيث يصبح التعاقد مشروعاً متعدد الهويات، لا عقداً متخيّلاً بين ذكور بيض ميسورين.
—خاتمة: من تفكيك الأسطورة إلى بناء بديل.
ليست نظرية العقد الاجتماعي سوى جزء من السردية الغربية الكبرى التي سوّغت مشروعها الحداثي بصيغة عقلانية، لكنها غالباً ما أخفت بنيتها الطبقية والعرقية والاستعمارية. وإذا أردنا استعادة مفهوم “العقد” كآلية تأسيس للعدالة، فإننا مطالبون بإعادة بنائه من الجذور، على قاعدة شاملة تُقرّ بالتعدد، وتُدمج الخبرات المسحوقة في فضاء التمثيل.
إنّ العقد العادل ليس ما يُكتب في غياب الضحية، بل ما يُصاغ بيدها، ويعترف بوجعها، ويُصغي لصوتها خارج صمت المؤسسات.