العقل العربي بين مأزق النهضة واستبداد الآخر:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

لم يزل العقل العربي، عبر مساره الفكري والثقافي، أسير مأزق حضاري عطّل إمكاناته النهضوية، ومنعه من تأسيس مشروع حقيقي يعزّز هويته وذاته في مواجهة الآخر الغربي. لقد تراكمت التحوّلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الساحة العربية، فأوجدت ضرورة ملحّة لإطلاق مشروع عربي جامع، يستند إلى اللغة المشتركة والتاريخ الواحد، ويستثمر الإمكانات الثقافية والحضارية في سبيل مواجهة التحديات الوجودية. غير أنّ المحاولات النهضوية، منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم، ظلّت متعثّرة، إذ لم تستطع أن تفصل بين السياسي والفكري، وظلّت أسيرة الظروف الآنية التي كبّلتها بقيود الإشكالات المرحلية.
لقد اتسم الفكر العربي النهضوي بإشكالية بنيوية حالت دون استقراره وتبلوره؛ فهو من جهةٍ ظلّ يعيد إنتاج سؤال العلاقة بالغرب ضمن ثنائية (الذات/الآخر)، ومن جهة أخرى بقي عاجزاً عن التأسيس لنهضة تنبع من خصوصيته الداخلية. فبدلاً من مساءلة العقل العربي لآلياته المعرفية، انشغلت النخب الثقافية بإيجاد حلول مؤقتة لأزمات متلاحقة، فابتعدت عن الأسئلة الجوهرية المتعلقة ببنية العقل نفسه، وكيفية استيعابه للواقع وإدارته للتاريخ.
ولأنّ الوعي العربي ظلّ مشدوداً إلى عقدة المقارنة مع الآخر، فقد غلب على مسيرته عنف المضاهاة والشعور بالدونية، وهو ما أنتج سيكولوجية جمعية قائمة على الرفض أو التماهي، دون أن يفتح المجال أمام تفاعل نقدي مثمر. فالمثاقفة الحقيقية – بما هي تبادل متكافئ بين الذات والآخر – لم تتحقق، بل جرى استبدالها بعملية تقليد ونقل، أي أخذٍ دون عطاء، وهو ما حال دون تجديد الذات أو إعادة بناء هويتها في ضوء تحديات العصر.
وقد كان الانبهار بالنموذج الغربي، منذ بدايات الفكر النهضوي، عاملاً حاسماً في ترسيخ التبعية، إذ جرى التعامل مع الغرب بوصفه المالك الحصري للحداثة، بينما حُصر التراث في خانة الأصالة. هذه الثنائية (الأصالة/الحداثة) لم تُناقَش في أصولها الوجودية والفلسفية، بل ظلت مقيدة بمنطق التقييم المعياري والتقابل الصوري، مما جعل النهضة العربية تدور في فلك أزمات متكررة دون قدرة على تجاوزها.
إنّ السؤال الذي طرحه محمد عبده في القرن التاسع عشر – عن سرّ تقدّم الغرب وتخلّف الشرق – ما زال عالقاً، لم يجد جواباً بنيوياً يتجاوز اللغة البلاغية. فبدلاً من إنتاج عقل حداثي قادر على توليد مفاهيمه الخاصة، اكتفى العقل العربي باستعارة الأيديولوجيات والمذاهب الوافدة، فازداد اغتراباً عن ذاته. وما زالت النخب، في لحظة الاستقلال وما بعدها، عاجزة عن إعادة طرح إشكالية العقل العربي من منظور نقدي فعّال، بل ظلّت تغرق في جدل الأيديولوجيات دون أن تجرؤ على الحفر في أعماق النظام الفكري ذاته.

من هنا يتبيّن أن أزمة النهضة العربية لم تكن فقط في غياب المشروع السياسي أو ضعف الإمكانات المادية، بل في قصور العقل عن مساءلة نفسه والاعتراف بغربته الداخلية. فكل نهضة لا تنطلق من مساءلة العقل ذاته، وتحريره من أسر النقل والتقليد، تبقى مشروعاً مبتوراً محكوماً عليه بالتكرار والارتباك أمام كل هجمة حضارية جديدة للآخر.