العقل العربي وإرهاصات الواقع المرير: بين الوعي بالذات والحلم بالنهضة:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

قراءة فلسفية في صيرورة الوعي العربي:
العقل العربي ليس مجرد أداة تحليلية أو حافظة للمعرفة، بل هو فضاء وجودي يتقاطع فيه الوعي بالذات مع إرهاصات التاريخ، ومساحة تتشابك فيها التجربة الفردية والجماعية، بين الطموح والحدود، بين المأمول والواقع المأزوم. إن فهم العقل العربي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر رؤية شمولية تجمع بين الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والثقافة، بحيث يصبح كل حدث، وكل مأساة، وكل تجربة اجتماعية أو سياسية مرآة تعكس أطياف الذات العربية، وعمق تناقضاتها، وصرخة وجودها المستمرة نحو الكينونة والحرية.

لقد أكّد محمد عابد الجابري في مشروعه “نقد العقل العربي” أن العقل العربي منذ العصور الوسطى وحتى الحداثة قد تعرض لـ”إكراهات تاريخية وسياسية”، وأن هذه الإكراهات أنتجت **وعيًا جزئيًا مقطوع الصلة بجذوره التراثية، متأثرًا بقوى الهيمنة والتبعية الفكرية”، وهو ما يفسّر حالة التمزق بين الإرث الحضاري والواقع المعاصر. من هنا نفهم أن الواقع المرير ليس ظرفًا عابرًا، بل جزءًا من بنية الوعي التي تشكل العقل العربي، حيث تتلاقى الحرية والاضطراب، الطموح والخذلان.
1. الواقع المرير: المأزق التاريخي والثقافي:

الواقع العربي اليوم يعكس تراكمًا من الإخفاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شكلت إرهاصات عقلية وثقافية عميقة. فالمجتمع الذي تعرض للغزو والاستعمار، ثم لتفكك الدولة والمجتمع، لا بد أن يتأثر وعيه، وتصبح انكساراته جزءًا من إدراكه الذاتي. كما يقول المفكر طه عبد الرحمن: “إن العقل العربي مأزوم حين يُجبر على التعامل مع مفاهيم لا تتوافق مع سياقه الحضاري، فتتولد أزمة بين العقل والوجود”، وهو ما يترجم عمليًا في إحساس بالإحباط الجماعي والفردي، وفي تضارب بين القيم المستوردة والقيم الأصيلة.
ويشير حسن حنفي إلى أن “الأزمة ليست فقط سياسية أو اقتصادية، بل معرفية أيضًا”، فالوعي الذي يُشكل القرار والفعل اليوم هو وعي تاريخي مشوّه جزئيًا، محكوم بسلطة الماضي ونقص القراءة النقدية للتراث. وهكذا تصبح مأساة العقل العربي مزدوجة: مأساة واقع حقيقي، ومأساة وعي عاجز عن تحويل هذا الواقع إلى مصدر للإبداع والمعرفة.
2. العقل العربي بين التراث والحداثة: صيرورة الفهم والوعي
العقل العربي في أعمق جوهره قادر على التفكر والتجاوز، لكنه يحتاج إلى مساحة نقدية وإبداعية. كما يوضح عبد الله الغذامي، فإن “النص العربي هو نتاج ثقافة، والثقافة هي تاريخ متراكم من الممارسات والوعي”، وهذا يعني أن العقل العربي يتفاعل مع الواقع ليس تلقائيًا بل عبر تفسير وتأويل مستمرين. الشعر، الفلسفة، والفكر النقدي كلها أدوات تعكس قدرة العقل على مواجهة الواقع المرير، وتحويل الألم إلى معرفة، والخذلان إلى حلم بالنهضة.
هنا يمكن استحضار تجربة الشعر الجاهلي، حيث كانت القصيدة وثيقة وجودية للإنسان العربي في مواجهة الطبيعة والفقدان والحرب، أو تجربة أدونيس في العصر الحديث، حيث يعود الشعر إلى الجذور ليطرح أسئلة وجودية عن الذات والمكان. فالعقل العربي، كما يرى هؤلاء المفكرون والمثقفون، لا يقف عند حد المعرفة، بل يسعى إلى تحويلها إلى وعي متقدم بالوجود، وفعل ثقافي يُعيد بناء الذات والجماعة.
—3. النوستالجيا والفكر العربي: إعادة بناء الوعي عبر الذاكرة
من بين أهم أدوات العقل العربي في مواجهة الواقع المرير تأتي النوستالجيا، التي ليست هروبًا، بل هي مخدع قُطنيٌّ من الذكريات، ونافذة للتأمل في أعمق لحظات الحياة، لاستعادة أسعد اللقطات ومراجعة الذات. كما يشير النص الفلسفي الذي تناول النوستالجيا، فإن استرجاع الماضي لا يكون للتأسف، بل لتثمين ما منحه القدر، وللإحساس بالامتنان بما عاشه الإنسان. في هذا الفعل تكمن القدرة على التركيز على المعنى والهدف، وإعادة إنتاج الذات بعد الصدمات.
إن عقلًا يعيد قراءة تاريخه وذاكرته النقدية قادر على تحويل الواقع المرير إلى مادة صالحة للتأمل والعمل الحضاري، ليصير النقد والفلسفة والشعر وسائل لتحرير الإنسان من قيود الإرهاصات التاريخية، ومناهج لصياغة مستقبل ممكن.
—خاتمة: نحو مشروع نقدي وفكري عربي متكامل.
إن قراءة العقل العربي في ضوء إرهاصات الواقع المرير تكشف عن ازدواجية الوعي بين الانكسار والطموح، بين الماضي والحاضر، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.
إن المشروع النقدي العربي الحقيقي يجب أن يقوم على ثلاثة محاور أساسية:
1. التأصيل الحضاري: فهم التراث والجذور التاريخية للعقل العربي دون تبعية أو محاكاة.
2. النقد الذاتي: مراجعة التجربة الثقافية والاجتماعية والسياسية بروح نقدية صريحة.
3. الفعل الإصلاحي: استثمار الشعر والفكر والفلسفة لإعادة بناء وعي متقدم، قادر على مواجهة الواقع وإنتاج المستقبل.
وهكذا، يصبح العقل العربي نشيطًا، متأملًا، ومبدعًا، لا مجرد متلقٍ للخبرات الخارجية، بل صانعًا للحياة والوعي، قادرًا على تحويل المرارة إلى معرفة، والفقدان إلى أمل، والنوستالجيا إلى قوة استنهاضية.