العقل والعالم: جدلية الفصل والوصل في الفكر الفلسفي وتطبيقاته المعاصرة:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

شكّلت الفكرة الديكارتية القائلة بوجود فصل جوهري بين العقل والجسد، أو بين الذات المفكرة والعالم المادي، منعطفًا فلسفيًا ذا أثر عميق على تطور العلوم الحديثة، وخصوصًا في مجالات الطب وعلم النفس. فقد أسست هذه الثنائية (المعروفة بثنائية ديكارت: res cogitans وres extensa) لفهم جديد للواقع، يقوم على قسمة صارمة بين “الذات العارفة” و”الموضوع المعروف”. وكان لهذا الانقسام تبعات معرفية ومنهجية ضخمة، لا تزال ترخي بظلالها على كثير من العلوم الإنسانية والطبيعية، وتطرح اليوم أسئلة ملحة عن جدوى هذا الفصل وحدوده. فما الذي ربحناه من هذا الفصل؟ وما الذي خسرناه؟ وهل يمكن اليوم تخطي هذه الثنائية نحو فهم أكثر تكاملًا للعقل والعالم؟
أولًا: الإرث الديكارتي وتأسيس النزعة التجريبية
رأى ديكارت أن الحقيقة تُدرَك من خلال العقل الخالص، لكنّه ــ paradoxically ــ مهّد الطريق لسيادة النزعة التجريبية عبر تقديمه نموذجًا للمعرفة اليقينية على شاكلة الرياضيات والفيزياء، ما جعل العلوم تتطلع إلى الموضوعية الصارمة، فصار الباحث في علم النفس مثلًا مطالبًا بأن يعزل الذات المدروسة عن ذاته، متقمصًا دور “العالم الفيزيائي” الذي يرصد حركة الكواكب.
وقد أسهمت الفيزياء النيوتنية في ترسيخ هذه الرؤية، من خلال تأكيدها على عالم منتظم، تحكمه قوانين الحتمية السببية، يمكن تمثيله رياضيًا وتفسيره دون حاجة إلى “داخل” الكائنات أو نواياها. من هنا نشأ علم النفس السلوكي، الذي نظر إلى الإنسان كما لو كان “آلة تتلقى المنبّهات وتنتج الاستجابات”.
يعلّق مارتن هايدغر على هذا الإرث بقوله إن “الحداثة بدأت حين فُصل الوجود عن المعنى، والإنسان عن العالم”، مشيرًا إلى أن التجربة الإنسانية فقدت طابعها الحي، حين جُعلت مجرد موضوع للفحص.
ثانيًا: التحليل النفسي وإعادة إنتاج الانقسام
على الرغم من الثورة التي أحدثها التحليل النفسي مع فرويد، إلا أنه ظل ــ في بنيته النظرية ــ وفيًا للفصل الديكارتي. فقد أعاد تصوّر النفس كبنية داخلية مغلقة، تتوزع بين “الهو” (مصدر الدوافع)، و”الأنا الأعلى” (مصدر الرقابة)، و”الأنا” كوسيط بينهما وبين العالم الخارجي.
لم يرَ فرويد الذات ككيان يتكوّن ضمن علاقة حية بالعالم، بل كنسق من الصراعات الداخلية يُفهم عبر تفكيكه إلى عناصر بنيوية. وقد ظلت العلاقة بين المحلِّل والمحلَّل قائمة على نموذج “المراقِب” و”المراقَب”، ما عمّق منطق الانفصال، لا التفاعل.
ولذلك، اعتبر ميشيل فوكو أن الخطاب التحليلي ــ رغم طموحه للتحرر ــ ظل أداة من أدوات “الضبط”، لأنه يفترض سلطة معرفية تُراقب وتُشخّص وتصنّف، دون أن تنخرط في علاقة متكافئة مع الآخر.
ثالثًا: نقد الثنائية وانبثاق النموذج التفاعلي
في النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ عدد من الفلاسفة والعلماء في تفكيك هذا الإرث الثنائي. فقد دعا موريس ميرلو-بونتي إلى فهم “الجسد” لا كشيء فيزيائي، بل كـ”وجود في العالم”، أي كجسر بين الذات والعالم. وبهذا يتلاشى الفصل بين الداخل والخارج، ليحلّ محله الفهم الظاهراتي للتجربة الإنسانية بوصفها تفاعلًا حيًّا.
من جهة أخرى، قدّم هوسرل وورثته في الفينومينولوجيا تصورًا يتجاوز “الراصد المعزول”، واعتبروا أن الوعي ليس مرآة محايدة، بل دائم التوجه نحو العالم.
والإنسان، بحسب هذا المنظور، لا “يملك” وعيًا بل “هو” وعي بالعالم.
كما طرحت مدارس علم النفس الإنساني (مثل كارل روجرز وأبراهام ماسلو) نماذج تقوم على التفاعل، والتعاطف، والاعتراف المتبادل بين الذات والآخر، رافضة تصنيف الفرد كموضوع تجريبي فحسب. يؤكد روجرز على ضرورة “العلاقة الحقيقية” بين المعالج والمريض، لا باعتبارها وسيلة علاج، بل كجزء لا يتجزأ من فهم الكائن البشري.
رابعًا: في الفكر العربي – هل من تجاوز للثنائية؟
رغم أن الفكر العربي لم يشهد نسقًا فلسفيًا مطابقًا للثنائية الديكارتية، إلا أن بعض تياراته الحديثة سقطت في فخ التقليد الغربي، فاستوردت مفاهيمها دون مساءلة، فجعلت من العقل “أداة قياس”، ومن التجربة “معيار يقين”.
إلا أن مفكرين كبارًا مثل محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن سعوا إلى مساءلة هذه الرؤية. فرأى الجابري أن “العقل العربي” لا يمكن فهمه إلا في سياقه الحضاري، رافضًا فكرة “العقل المجرد” ككائن كوني منفصل. بينما ذهب طه عبد الرحمن إلى أبعد، حين دعا إلى “تجديد المنطق”، بما يراعي البعد الأخلاقي والروحي للتجربة، ويعيد وصل العقل بالقلب، والمعرفة بالوجود.
خاتمة: نحو عقل متجسّد وعالم مُعاش
الفصل بين العقل والعالم، بين الذات والموضوع، بين الراصد والمرصود، كان ضرورة معرفية في لحظة تاريخية معينة، لكنه تحوّل إلى عائق معرفي وإنساني إذا ما أُخذ كمسلمة نهائية. لقد كشف التطور المعرفي المعاصر، من خلال الظاهراتية، وعلم النفس الإنساني، وحتى بعض توجهات العلوم المعرفية الحديثة، أن الذات لا تُفهم إلا في تفاعلها الحي مع العالم، وأن “المعرفة” ليست تسجيلًا موضوعيًا لحقائق جاهزة، بل هي فعل مشترك، ينطوي على فهم، وعلاقة، ومعنى.
إننا اليوم أحوج ما نكون إلى “عقل متجسّد”، يعترف بأن الإنسان ليس جهازًا للإدراك فقط، بل كائن يحيا، ويتألم، ويختبر العالم في جسده ووجدانه. إن استعادة هذه الوحدة المفقودة بين العقل والعالم، ليست فقط مهمة فلسفية، بل مهمة حضارية وإنسانية عاجلة.