العلمانيّة بين التاريخ والتاريخانيّة..

د. عدنان عويّد.

كثرت بعد قيام الثورة في سورية وسقوط النظام الأسدي, مسألة الحديث عن العلمانيّة والعلمانيين, كما كثر التساؤل حول هل العلمانيّة كفر وزندقة والحاد؟. أم هي حركة تاريخ اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي, يصنعها الإنسان بإرادته يعد تسخير عقله وجوارحه من أجل بناء حياة تسودها الحريّة والعدلة والمساواة.

دعونا بداية نميز بين التاريخ والتاريخانيّة. فالتاريخ أو التأريخ أو التوريخ, هو سجل الحوادث والعلاقات التي يصنعها الإنسان بنفسه (بإرادته هو) وفقاً لحاجاته المستدامة, وذلك من خلال تفاعله مع الطبيعة ومع غيره من بني الإنسان, وهذه العلاقات التفاعليّة لها سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين. أي لها حركتها وإعادة إنتاجها بحالات متطورة في بنيتها وفقاً لمصالح الإنسان. أو بتعبير آخر: إن هذه السيرورة والصيرورة لبنية المجتمع بكل مكوناتها (الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة), القائمة على الحركة المستمرة نحو الأمام دائماً, تتولد بـ (الضرورة) من صلبها علاقات جديدة بكل مكوناتها قابلة للتطور باستمرار بفعل الإنسان داخل بنية المجتمع. فالناس يصنعون تاريخهم بأيديهم شاء من شاء وأبا من أبا, وأهل مكة أدرى بشعابها… وأمور دنياهم هم أدرى بها أيضاً.

أما التاريخانيّة: فهي منهج فلسفي عقلاني في التفكير والممارسة, ينظر في سيرورة وصيرورة العلاقات الإنسانيّة داخل التاريخ. فالعلاقات الإنسانيّة التي أقامها الإنسان بإرادته كما بينا أعلاه, تأخذ دائما حالة التوسع والتعقيد والتشابك في بنيتها. فالاقتصاد يتداخل في البنية الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة, وكذا حال كل مستوى من هذه المستويات في علاقته مع المستويات الأخرى. فحالة التداخل والتشابك هذه, وخاصة عندما يتطور الوعي وتصبح له أنساقه المعرفيّة, وفي مقدمتها النسق الديني والسياسي, وترابطهما مع الممارسة اليوميّة المباشرة, تبدأ مسألة تجهيل الناس من قبل السلطات الحاكمة, وإبعادهم عن أسباب تشكل الفوارق الطبقيّة, وما تولده هذه الفوارق من ظلم وقهر واستلاب وآلام للمنتج من قبل المالك, ويبدأ هنا تجار الدين تبرير فقر الناس وكل ما يتبعه من ظلم تبريراً غيبيّاً, وأن ما يصيب الناس هو أمر مقدر عليهم, إما بسب جهلهم وكسلهم وقلة الحيلة عندهم كما تقر بعض فلسفات الفكر الوضعي, أو بسبب موقف جبري ديني يقر بأن الإنسان مجبر على أفعاله وليس مخيراً. ومع تغيب الوعي بهذه الطريقة تبدأ مسألة نشر الخرافة والأساطير والغيبيات والسحر والشعوذة وكل ما ينتمي إلى اللامعقول.

أمام هذه اللوحة المعقدة والمتشابكة من العلاقات التي بدأت تسودها الخرافة واللامعقول, يأتي دور (التاريخانيّة) أو المنهج التاريخاني, من أجل إخراج التاريخ (المشوه) في علاقاته وأسباب قيام هذه العلاقات, من عقول الناس الجهلة, وإعادة (إدخال عقولهم) في هذا التاريخ ذاته, بحثا واستقصاءً واستقراء واستنتاجاً عن الحقيقة المغيبة داخل هذا التاريخ ذاته. ففي القرن الثالث للهجرة, عندما سيطر المماليك على الخلافة وحولوا الخليفة منذ عهد “المتوكل” إلى (ببغاء في قفص), وراحوا يستغلون العباد ونهب ثرواتهم, قامت ثورات الزنج والقرامطة والخرميّة والبابكية, من أجل محاربة المستغلين وعودة الحقوق إلى أهلها. فوضعت ثورة الزنج على سبيل المثال شعاراً لها الآية القرآنية: (نريد أن نمنّ على المستضعفين في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين), أمام من كان يؤكد فقر الناس بنص الآية (أهم يقسمون رحمة ربك, نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات..). هكذا قامت أقلام السلطة من الذين أرخوا لهذه الثورات باتهام من قام بهذه الثورات بأنهم ملاحدة وكفار وزنادقة ومارقين على الخلافة المقدرة من قبل الله عليهم.

إن القرامطة, استطاعوا لأول مرّة أن يفكروا في بناء دولة خارج فهم الخلافة و(النص الديني), بقيادة شعبيّة, ممثلة بمجلس عقدانيّة منتخب, وبذلك أخرجوا التاريخ من عقولهم وأدخلوا عقولهم في فيه ليتم تداول السلطة ووضع خطط لتسيير البلاد وفقا لما يقررونه هم, وعلى هذا التوجه امتدت دولتهم (300) عاماً. لقد حققوا العدالة والمساواة لأبناء المجتمع, وبذلك كانوا يمارسون فعلاً علمانيّاً. وإن ما تقوم به اليوم حكومة السيد “الشرع” من أعمال على مستوى الداخل والخارج, هي تصب بالضرورة في المضمار العلماني, فليس للدين أي دور في طريقة التفكير الاقتصادي والسياسي التي تنتهجها الدولة اليوم, إلا الاعتماد على مقاصد الدين التي تدعوا إلى الخير والمحبة والعدالة والتنمية للجميع. فعقد مشروع إعادة الكهرباء يدخل في مجال التفكير العقلاني الذي تقره مقاصد الدين, وكذا العقد الأخير الموقع من أجل بناء مدينة إعلاميّة في ريف دمشق… وقس على ذلك.

هكذا تشتغل التاريخانيّة على التراث, إنها تعيد إدخال عقل المهتم بالتاريخ في هذا التاريخ للوصول إلى الحقيقة.

العلمانيّة جوهر التفكير التاريخاني:

لننظر الآن إلى العلمانيّة من وجهة نظر المنهج التاريخانيّ, كي نعرف هل هي كفر وزنقة ومروق عن الدين كما يصفها التاريخيون السلفيون النقليون.؟1.  أم هي مشروع حياة تمنح الإنسان حريته في تسخير عقله لصنع حياته وتحقيق مصيره في هذه الحياة, من منطلق الناس أدرى بشؤون دنياهم؟.

نعم العلمانيّة مشروع حياة, تهدف إلى بناء الفرد والمجتمع والدولة, كي تتحقق في هذا المشروع الحريّة والعدالة والمساواة والتقدم, أو الرقي في فكر الإنسان وسلوكياته وحياته العمليّة.

والعلمانيّة إن اشتقت من العلم أو من العالم, فهي تستند في رؤيتها ومنطلقاتها على قوانين أو سنن موضوعيّة خارج إرادة الإنسان.

فإذا كانت العلمانيّة قد اشتقت من الْعَلْمِ,ِ فالعلم له قوانينه التي لا تتحكم بها عواطف الإنسان ورغباته.. ولكن الإنسان يستطيع أن يكتشف هذه القوانين الموجودة في الطبيعة ويسخرها لمصلحته, وهذا ما جرى عبر تاريخ علاقة الإنسان مع الطبيعة ومحيطه الاجتماعي. فمع اكتشاف قانون الاحتكاك مثلاً استخدم النار.. ومع اكتشاف أن النار تصهر المعادن, استخدم المعدن في صنع أدوات قتاله وإنتاجه, وهكذا دواليك ففي كل مرة يكتشف فيها هذا الإنسان قانوناً من قوانين الطبيعة يسخر هذا القانون لمصحته.. وهذا ما جرى مع دافعة أرخميدس.. وقانون الجاذبية.. واكتشاف الذرة وتقسيمها.. الخ.

إذن في هكذا سياق من عمليّة التفاعيل بين الإنسان والطبيعة وقوانينها, تطورت حياة الإنسان بعمله وإرادته هو.. فعندما اكتشف الإنسان البارود وسخره في القتال مع اكتشاف أول بارودة قتال أيضا, تغيرت كل الطرق العسكريّة في العالم… وهكذا يؤثر العلم على حياة الإنسان ومسيرته التاريخيّة.

أما إذا كانت العلمانيّة مشتقة من اَلْعًاَلمْ, والعالم نقصد به هنا حياة الناس الاجتماعيّة وتفاعلها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي, فلهذا العالم أيضاً قوانينه التي تتشكل من خلال تلك العلاقات الاجتماعيّة بالضرورة. فالإنسان البدائي الأول كانت علاقته مع الطبيعة ومحيطه الاجتماعي علاقة بدائية مباشرة تفتقد إلى أي قانون يحكمها سوى قوانين الطبيعة العمياء.. فمن معطيات الطبيعة المباشرة, كان يحصل على غذائه وشرابه, وعندما يجوع ولا يجد في الطبيعة ما يأكله, قد يأكله أخاه الإنسان, وعندما يتعرض لخطر الوحوش, يدافع عن نفسه بقواه العضليّة.. وحياته الجنسيّة مشاعة.. ولقمة العيش مشاعة.. ولكن عندما بدأ الإنسان يستخدم أو وسيلة إنتاج بوعيه, إن كان من أجل تأمين الغذاء أو للدفاع عن نفسه, هنا بدأ يفكر ويتحول شيئاً فشيئاً إلى إنسان عاقل يختلف عن الحيوان في علاقاته الاجتماعية.

بعد تشكل الوعي من خلال العمل والانتاج,  بدأت إمكانيّة استخدامه في علاقات الناس مع بعضهم, وبالتفكير والعمل بأخذت تتطور حياة الإنسان. وفي كل مرة تتطور فيها وسائل إنتاجه وتكتشف قوانين جديد في الطبيعة من قبل الإنسان ذاته, يزداد الإنتاج ويكتسب الإنسان خبرات جديدة تنعكس على حياته العمليّة والفكريّة معاً. ومع زيادة الإنتاج يستقر الإنسان, ومع استقراه يبدأ ينظم حياته ويعيد إنتاج ما يساهم في استقرار هذه الحياة.. ومع الاستقرار يزداد عدد السكان, ومع زيادتهم تزداد حاجات الإنسان, ويصبح هناك تخصص في العمل. ففي البدء ظهر التخصص في العمل والمهام بين المرأة والرجل, ثم تلاها التخصص على مستوى المجتمع من خلال مزاولة الحرف, فمنهم من راح يعمل في الزراعة, ومنهم في الرعي, ومنهم في الحرفة, ومنهم في مجال الفكر كالكهنة أو رجال الدين. ومع هذا التقسيم الكبير للعمل, بدأت تتعقّد العلاقات الاجتماعيّة والانتاجيّة والفكريّة معاً, ومع هذا التعقيد بدأ ينتج وعي آخر أكثر تطوراً, وبدأ اكتشاف الحرف والكتابة والحساب للتفاهم وتدبير أمور العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة, ثم مع تعقّد الحياة المستمر بدأ الإنسان يفكر في خلق الكون وطبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة, وهنا ظهر الفن الذي راح الإنسان يعبر فيه عن مخاوفه وهواجسه من المجهول كالفيضانات والزلازل والموت وغير ذلك, من خلال الرسوم على جدران الكهوف.. فبدأت تظهر الرموز الدينيّة الأوليّة ممثلة في الجد الأكبر أو في شجرة أو حيوان (التوتم).. ثم راحت تظهر الآلهة المجردة المذكرة منها والمؤنثة في تفكير الإنسان, فوضع لكل علاقة اجتماعيّة إلاهاً أو إلاهة.. تلك عشتار ألهه الخصب.. وتلك فينوس ألهه الجمال.. و تلك ديانا آلهة الصيد.. وذاك بعل إله المطر.. وذاك باخوس إله الحرب… وذاك تموز إله الربيع وتجدد الحياة.. إلخ.. ومع تقدم الانتاج وما رافقه من تقدم في العلاقات الاجتماعيّة والفكريّة وتعقّدها, بدأت تظهر السلطة وتسخير الفكر الديني والفني لمصلحتها.. فالحكام أصبحوا آلهة أو يمثلونها على الأرض… وهكذا بدأت تظهر فكرة الدين وأهميته وخاصة في استغلاله من قبل الحكام لمصالحهم الأنانيّة الضيقة.

هذه هي معطيات العلمانيّة في حياة الإنسان, فالعمانيّة وفق هذه المعطيات هي قدره الحتمي المرتبط بإرادته وبعلاقته الاجتماعيّة والانتاجيّة .. أي هي كل فعل يقوم به الإنسان بإرادته من أجل التأثير في الطبيعة والمجتمع بغية تحقيق مصالح ماديّة أو معنويّة.

أما مسألة الدين وعلاقته بالعلمانيّة, فمن خلال عرضنا السابق لمسنا كيف ظهر الدين وكيف استغل من قبل الحاكم لمصلحته, إن كان في الديانات الوضعيّة البدائيّة أو حتى الديانات السماويّة.. فهذه اليهوديّة تستثمر من قبل الصهاينة من أجل تحقيق نهب فلسطين وتشريد أهلها تحت ذريعة العودة إلى أرض الأجداد وشعب الله المختار. وهذه المسيحيّة مورست في حروب أهليّة طاحنة, ولم نسلم منها نحن في الشرق, عندما قامت الحروب الصليبيّة, إضافة إلا ما حققته الكنيسة من مكاسب في تحالفها مع الملك من أجل استغلال شعوب أوربا, بل مرت فترات في العصور الوسطى سيطرت فيها الكنيسة على  الملك والدولة سيطرة تامة. أما في الإسلام فباسمه قامت الحروب الطائفيّة بين السنة والشيعة, وقسمت الأمّة إلى (73) فرقة كل واحدة تقول بأنها هي الناجية, وتكفير المختلف عنها, وكم استغل الدين في تاريخنا المعاصر لمصلحة الحاكم, كما جرى في سورية زمن النظام المخلوع, حيث استغل حافظ وابنه بشار هذا الدين, وتاجروا به, لقد بنوا في سورية بعهدهما (23) ألف جامع و(54) مدرسة شرعيّة, وعشرات المعاهد والجامعات الدينيّة, ومئات دور تحفيظ القرآن, ووجد حراس لهذا الدين من القبيسيات وشباب الرحم, في الوقت الذي كانت فيه تصرفات آل الأسد تدل على انها أكثر بعداً عن الدين.. فسجونهم وتجارة المخدرات وقمعهم للمختلف والقتل والتشريد والظلم الذي مارسوه بحق الشعب, هو أبعد عن أي دين وضعي او سماوي.

من خلال هذا التاريخ الطويل جاءت قضية فصل الدين عن السياسة أو حكم الدولة, حتى لا يستغل هذا الدين لمصلحة الحاكم والفرقة الناجية. ولكن يظل الدين يحمل في طياته القيم والأخلاق النبيلة, وهو الشرطي الداخلي الذي يخيف الناس من ممارسة الغلط والعودة عنه خوفا من العقاب الإلهي.. وعل هذا الأساس قال أحد الفلاسفة أو القساوسة: (حتى لو لم يكن هناك إله, علينا أن نوجده).

كاتب وباحث من سوريا.

d.owaid333d@gmail.com