لم يعد السؤال عن العلوم الإنسانية سؤالًا عابرًا يتعلّق بمناهجها أو محدودية نتائجها مقارنة بالعلوم الدقيقة، بل صار سؤالًا أنطولوجيًا عميقًا يتعلّق بجوهر الكائن الإنساني نفسه، وبكيفية حضوره في العالم وفهمه لذاته. هنا يبرز ما أطلق عليه مارتن هايدغر “المنعطف الأنطولوجي الحاسم”، حيث لم تعد اللغة أداة للتعبير أو التواصل فحسب، بل غدت بيت الكينونة، ومسرح الوجود، والمفتاح الأعمق لفهم الإنسان لذاته والعالم من حوله.
لقد أبانت العلوم الطبيعية – بما تمتلكه من صرامة رياضية وتجريبية – عن قدرتها الفائقة على السيطرة على الطبيعة وإنتاج ما سمّاه هابرماس “العقل الأداتي”. غير أنّ العلوم الإنسانية لم تكن يومًا مطالبة بتقليد هذه الصرامة، بل بفتح أفق آخر يقوم على الفهم والتأويل. فكما أوضح فيلهلم دلتاي، فإن موضوع العلوم الإنسانية هو “تجربة الحياة” ذاتها، أي التاريخ والذات والمعنى، لا الظواهر المادية الصمّاء. وهنا يلتقي دلتاي مع هايدغر في محاولة تحرير الفهم من هيمنة “النموذج الفيزيائي” ليفتحه على الوجود الإنساني بما يحمله من توتر وتناهي وقلق واندفاع نحو المعنى.
_ المنعطف الأنطولوجي – وفق هايدغر – يعني أن نفهم أنّ وجودنا ليس موضوعًا للمعرفة فحسب، بل هو الشرط السابق لكل معرفة. أي أنّنا “نكون في العالم” قبل أن نصف العالم أو ندرسه. وهذا ما جعل بول ريكور لاحقًا يربط بين التأويل والذاتية، معتبرًا أنّ كل فهم هو بالضرورة تأويل، وأنّ كل تأويل يكشف في النهاية عن الذات وهي تُعاد صياغتها من خلال النصوص، الرموز، واللغة.
إنّ العلوم الإنسانية إذن، لا تُختزل في تقنيات أو مناهج، بل في هذا البعد الأنطولوجي للإنسان، حيث تصير اللغة مجال كشف لا يقل عمقًا عن التجربة الوجودية نفسها. ولعلّ ما أشار إليه ميشيل فوكو من أنّ الإنسان ليس “كائنًا جاهزًا” بل “اختراع حديث على رمال المعرفة” يعبّر بوضوح عن أنّ الفهم الإنساني مشروط دائمًا بتاريخية المعنى وتحوّلاته.
وعليه، فإنّ التحدي المطروح أمام العلوم الإنسانية ليس أن تسير على خطى “الهايتك” والعلوم الصلبة، بل أن تظل وفيّة لرهانها الأصلي: الفهم الذاتي والتأويل التاريخي للوجود. وهذا ما يجعلها، في زمن التقنية الطاغية، ليست علماً أدنى كما يتصوّر البعض، بل حارس المعنى الأخير الذي يذكّر الإنسان بحدوده، بقلقه، وبأنّه كائن لا يُختزل في معادلة رياضية ولا في كود برمجي، بل في تجربة أنطولوجية مفتوحة على الاحتمال واللانهاية.
وكأنّ “المنعطف الأنطولوجي الحاسم” الذي دشّنه هايدغر وأضاءه دلتاي وريكور وفوكو، يعلّمنا أنّ العلم الإنساني ليس مجرّد معرفة بالإنسان، بل هو الإنسان وهو يُحاول أن يعرف ذاته من داخل وجوده المتناهي.