العود الأبدي والولادة من رماد الإنسان: جدلية النور والوهم في المسار الحلزوني للتاريخ:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

 

في لحظةٍ يختلط فيها النور بالعتمة، واليقظة بالعمى، تبدو البشرية وكأنها تُعيد كتابة أسطورتها الكبرى من جديد، على إيقاع ولادةٍ عسيرة تتقاطع فيها الميتافيزيقا مع الجغرافيا، والفكر مع الدم، والحضارة مع الخراب. نحن اليوم، كما يبدو من المشهد الكوني، نعيش طوراً جديداً من العود الأبدي النيتشوي، حيث تتجدد الدائرة التاريخية لا لتكرر ذاتها فحسب، بل لتُعيد خلق نفسها ضمن حركةٍ حلزونية تتقدم إلى الأمام وهي تلتف على ماضيها، كما لو أن الإنسان كائن ينهض من رماده كي يبتكر رماده القادم.

في هذا السياق، تغدو “غزّة” رمزاً كونيّاً لا لمأساةٍ سياسيةٍ أو عسكريةٍ فحسب، بل لحالةٍ أنطولوجية تختبر فيها البشرية معناها الوجودي الأعمق. فالمأساة الغزاوية ليست مجرّد فصلٍ في صراعٍ جيودينيٍّ بين “يهودا وروما”، أو بين “شيعة وسنّة”، بل هي تجلٍّ جديد لصدام الإنسان مع ذاته، صراع الإنسان مع وهْم القيم التي صاغها ثم صدّقها حتى صارت قيوده.
لقد أشار نيتشه في “هكذا تكلم زرادشت” إلى أن الإنسان يجب أن يُحطّم الأصنام القديمة كي يخلق قيماً جديدة، لأنّ “كلّ إلهٍ مات هو تمهيدٌ لولادة إنسانٍ أعلى”. هكذا يمكن قراءة الواقع الراهن بوصفه لحظة انهيار “أسطورة قيم عصر الأنوار”، التي وُعد فيها الإنسان بالحرية والعقلانية والكرامة، فإذا بها تُختزل إلى استبدادٍ ناعمٍ باسم التقدّم، وإلى نزعةٍ ماديةٍ حوّلت الإنسان من ذاتٍ خلاقةٍ إلى ترسٍ في آلة العولمة النيوليبرالية.
إنّ ما يحدث اليوم هو، بتعبير أوسفالد شبنغلر، “أفول الغرب”، لا بمعناه الجغرافي، بل القيميّ والروحيّ. فالحداثة التي رفعت راية التنوير انتهت إلى نقيضها: العدمية. لقد تلاشت الثقة بالعقل كمنقذ، وتحوّل الإنسان المعاصر إلى كائنٍ متخمٍ بالمعلومات، فارغٍ من المعنى. وهنا تتجلى مرة أخرى إرادة القوة بوصفها مبدأ الوجود ذاته، كما فهمها نيتشه لا باعتبارها نزوعاً إلى السيطرة، بل اندفاعاً خلاقاً نحو تجاوز الذات وإعادة ابتكار العالم.
وفي عمق هذا التيه التاريخي، يصبح الصراع الذي يبدو دينيّاً أو سياسيّاً في ظاهره، صراعاً ميتافيزيقياً في جوهره. إنه بحثٌ عن “نورٍ جديد” بعد انطفاء وهج النور القديم. فحين يتوهج الضوء أكثر مما يجب، نصاب بـ“العمى المؤقت”، لأنّ الإدراك لا يحتمل شدة السطوع، ولأنّ الحقيقة حين تُكشف دفعةً واحدة تُعمينا بدل أن تنيرنا. لذلك يغدو إغماض العينين ضرورةً معرفية، كي نعيد تشكيل وعينا في ظلمةٍ قصيرةٍ تسبق بصيرةً أعمق.
لقد أدرك هيدغر أنّ الوجود لا يُكشف إلا عبر الصدمة، وأنّ الحقيقة لا تُرى في الوهج بل في “الخفاء المنكشف”. فكلّ عصرٍ يحتاج إلى سقوطٍ كي يستعيد أصالته، وكلّ نورٍ لا يُختبر إلا بعد أن نُخدع ببريقه الزائف. إنّ المسار الحلزوني للتاريخ ليس دائرة مغلقة بل لولبٌ يتجه نحو الأعلى، يحمل في دورانه تكراراً للجوهر وتجديداً للمعنى، كما في مقولة هيراقليطس: “لا يمكنك أن تنزل النهر نفسه مرتين، لأن الماء المتدفق ليس ذاته، وأنت لست ذاته”.
في ضوء ذلك، يمكن القول إنّ “الولادة من جديد” التي تشهدها الإنسانية ليست تكراراً آلياً لسابقتها، بل تحوّل في البنية الروحية للعالم. إنها عودةٌ إلى البدء لا على مستوى الزمان، بل على مستوى المعنى. الإنسان اليوم يقف أمام مرآة ذاته الكونية، مدركاً أن القيم التي بشّرته بالخلاص لم تكن سوى مرايا عاكسةٍ لوهمه.
ومن هنا، تكتسب مقولة نيتشه – “حب القدر” – معناها الحقيقي: أن نحب ما هو كائن، لا لأنّه مثالي، بل لأنّه الحقيقة التي علينا أن نحولها إلى إمكانيةٍ أسمى.
إنّ البشرية، وهي تمر عبر رمادها الغزاويّ، إنما تُعيد تمارين الولادة، وتخوض تجربة العود الأبدي لا كقدرٍ محتوم، بل كفعلٍ إراديٍّ نحو تجاوز العدمية عبر إرادة القوة الخلاقة. فالحياة – كما أرادها نيتشه – لا تُعاش من أجل السعادة، بل من أجل القوّة التي تولّد قيماً جديدة من صلب الألم.
وهكذا، حين نتعثر بضوءٍ كنا نظنه خلاصاً، لا يكون السقوط سوى استراحةٍ قصيرة في طريق الارتقاء، لأنّ الإنسان، كما يقول ألبير كامو، “هو الكائن الذي يرفض أن يُسحق”. إننا نبحث عن ضوءٍ آخر لا يعمينا، عن قيمٍ جديدة لا تُستمد من الكتب ولا من الأنظمة، بل من عمق التجربة الإنسانية التي تتجدد في كلّ مرة نحترق فيها لنصنع من رمادنا فجراً آخر.

هكذا تكتمل الدورة: من العدمية إلى الولادة، ومن النور إلى الوعي، ومن القوة إلى المعنى.
ذلك هو العود الأبدي في صورته الأعمق — لا كزمنٍ يتكرر، بل كروحٍ تخلُق ذاتها باستمرار في مجرى الصيرورة.