الغارديان: إسرائيل تحارب الهوية الفلسطينية وليس المقاومة

السياسي – لا تترك الصور القادمة من غزة الكثير للخيال، فهي لا توثق فقط جريمة حرب إبادة مستمرة، بل تكشف بوضوح هدفًا أبعد من مجرد القضاء على فصائل المقاومة.

ففي تحليل نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، تبيّن أن الحملة الإسرائيلية المتواصلة ليست حربًا على المقاومة فقط، بل حرب شاملة على كل ما يمت لهوية الشعب الفلسطيني بصلة.

وأكدت الصحيفة أنه منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، اتضح أن دولة الاحتلال تسعى إلى ما هو أبعد من أهدافها المعلنة.

فعمليات القصف واسعة النطاق، واستهداف المدنيين، وتدمير البنية التحتية، ومحو الأحياء السكنية من الوجود، كل ذلك لا يشي فقط بالرغبة في هزيمة عسكرية للمقاومة، بل بإرادة ممنهجة في محو الهوية الفلسطينية من جذورها.

وتقول الغارديان إن ما يُوصف إعلاميًا بـ”العملية العسكرية الإسرائيلية” ليس سوى تسمية مخففة لحملة تطهير وتهجير وقصف جماعي، يتخذ من معاقبة المدنيين وسيلة لتحقيق غايات سياسية وديموغرافية.

وهذه الممارسات، كما توضّح الصحيفة، لم تَعُد تخفى على أحد، حتى أولئك الذين كانوا يرددون سردية دولة الاحتلال حول استهداف المقاومين فحسب.

-منع التغطية الإعلامية

من الأدلة الصارخة على هذا التوجه، تعمد دولة الاحتلال إلى طمس الحقيقة من خلال منع الصحفيين الأجانب من دخول القطاع، والتضييق على فرق الإغاثة، واغتيال الصحفيين الفلسطينيين.

وبهذا تُبقي الرواية في يد الجيش، الذي يُنتج صورًا ومقاطع فيديو تُعرض على الإعلام الدولي ضمن سردية مصممة بعناية.

غير أن تحليلات مستقلة، كتحقيق “فورنسيك أركيتكتشر”، كشفت مرارًا زيف هذه المواد، وأثبتت أن الجيش الإسرائيلي لجأ إلى تحريف الأدلة البصرية وحتى الكذب أمام محكمة العدل الدولية.

الصحيفة البريطانية سلطت الضوء أيضًا على حالات استخدمت فيها سلطات الاحتلال صورًا جوية قالت إنها تُظهر إطلاق صواريخ من مواقع مدنية، لكن تبين لاحقًا أنها لم تكن إلا حفر ناجمة عن غارات إسرائيلية.

وفي مثال آخر، نشرت دولة الاحتلال مقطعًا مصورًا زعمت فيه وجود مقر قيادة للمقاومة تحت مستشفى، لكن تحقيقًا مستقلًا أثبت أن الموقع الحقيقي كان مدرسة، وأن ما زُعم أنه مركز قيادة لم يكن سوى قناة تصريف.

وأبرزت الغارديان أن هذه الأكاذيب المُعلنة تستند إلى قناعة مروّجيها بأن الإعلام الغربي – وتحديدًا الأميركي – سيتلقفها دون مساءلة.

إذ لطالما رُوِّج للفلسطينيين على أنهم غير جديرين بالثقة، مقابل صورة مصطنعة لإسرائيل كدولة ديمقراطية شفافة.

وأكدت الصحيفة أن هذا التحيّز الراسخ يفسر أيضًا كيف أن الأكاذيب حول “رؤوس الأطفال المقطوعة” التي روّجها الرئيس بايدن في بداية الحرب، لم تُقابل بالتكذيب من الإعلام السائد، بل تم تجاهلها أو تبريرها.

-تجاهل المأساة الإنسانية في غزة

كل ذلك ترافق مع تجاهل كامل للواقع الميداني في غزة، رغم توفر آلاف المواد البصرية التي توثق حجم الدمار والفظائع.

بل إن التحديثات على خرائط غوغل وحدها كافية لكشف حجم المحو الذي تعرضت له مناطق واسعة من القطاع، في ظل استمرار القصف وغياب أي مناطق آمنة حقيقية.

اللافت، كما تشير الغارديان، أن دولة الاحتلال لم تكتفِ بإلغاء التصنيفات الإنسانية لمناطق يفترض أنها آمنة، بل وُثِّقت حالات استخدم فيها الجنود الإسرائيليون منازل النازحين للسخرية، وتصوير أنفسهم وهم يعبثون بممتلكاتهم الشخصية، بما في ذلك الملابس الداخلية.

وشددت على أن نزع إنسانية الضحية الفلسطينية لا يجري فقط عبر القصف، بل هو ممارسة يومية تُغرس في أذهان الجنود، كما عبّر أحد مسؤولي منظمة “بتسيلم” الحقوقية.

وفي واحدة من أكثر الصور المأساوية التي تم تسريبها، يظهر فلسطينيون جائعون محتجزون خلف أسوار حديدية على حواجز أقامتها سلطات الاحتلال لما يسمى “المساعدات”، محاطين بجنود ومتعهدين عسكريين أجانب، في مشهد يُعيد إلى الأذهان صور معسكرات الاعتقال وليس الإغاثة.

وترى الغارديان أن هذا ليس توزيع مساعدات، بل هو إعادة إنتاج للاحتلال بشكل جديد، أكثر إذلالًا وتجريدًا من الإنسانية.

وشددت على أن مجمل هذه الشواهد يفضح هدف الحملة الإسرائيلية: ليس نزع سلاح المقاومة، ولا منع تكرار عملية 7 أكتوبر، بل اقتلاع الوجود الفلسطيني من جذوره، وتدمير أي إمكانية لبقاء هذا الشعب على أرضه، أو استعادة هويته الوطنية. إنها حرب على الذاكرة، وعلى التاريخ، وعلى الروح.

وفي ضوء هذه المعطيات، يصبح من السخف الإصرار على توصيف ما يجري بأنه “عملية عسكرية” أو “حرب على المقاومة”. ما يحدث هو مشروع محو، تواطأت فيه القوى الكبرى عبر الدعم العسكري والسياسي، وصمت الإعلام السائد، وتواطؤ من يُفترض أنهم حراس القانون الدولي.

وفي نهاية التحليل، تدعو الغارديان إلى إعادة التفكير في دور الإعلام الغربي، وفي مدى مسؤوليته عن استمرار هذه الإبادة من خلال تبنيه السرديات الرسمية الإسرائيلية دون مساءلة. وتضع أمام القارئ الغربي سؤالًا أخلاقيًا باردًا: إذا لم يكن كل هذا كافيًا لفتح أعينكم، فماذا يمكن أن يكون؟.