الفساد ليس قدراً ينزل على الأمم كما ينزل المطر، ولا هو لعنة تحلّ بالشعوب من خارج إرادتها؛ إنما هو فعل بشريّ محض، له فاعلوه ومهندسو شبكاته، وله المستفيدون الذين يحرسونه ويعيدون إنتاجه جيلاً بعد جيل. إنّ أوضح بديهيات العقل أن ما من فساد بلا فاسدين، وما من استبداد بلا مستبدين، وما من ظلم بلا ظالمين. ومع ذلك، يميل الخطاب العام في فضائنا العربي إلى الحديث عن الفساد وكأنه ظاهرة غامضة، هبطت علينا من مجرّة مجهولة، لا نعرف وجهها ولا اسمها، مكتفين بعموميات هلامية تخفّف من وقع الصدام المباشر مع مرتكبي الجرائم الأخلاقية والسياسية.
هذا الميل إلى التجريد ليس بريئاً، بل هو جزء من فائض المكبوت التعبيري الذي أُجبر الناس على تصريفه بلغة ملتوية، تحت رقابة سيف السلطة وسطوة الأعراف. فصار الحديث عن “بعض” و”معظم” و”الكثير” بديلاً عن التسمية الدقيقة للأفراد والمؤسسات. وكأنّنا نحارب أشباحاً لا جسداً لها، فيما يعيش الفاسدون بيننا، يلبسون أثواب الوقار، ويخوضون في الأسواق، ويحتكرون القرار والثروات.
إنّ الفصل بين الظواهر وفاعليها ليس سوى جريمة فكرية وأخلاقية، لأن الظواهر لا تتحقق في الواقع إلا عبر إرادة أشخاص وجماعات. فالفساد شبكة بشرية ذات مصالح متداخلة، والاستبداد مؤسسة تقوم على أجهزة وأشخاص، والظلم فعل يتغذّى من صمت الشهود وتواطؤ المنتفعين. بهذا المعنى، فإن التغاضي عن تسمية الفاسدين والمستبدين بأسمائهم الحقيقية هو شكل من أشكال التواطؤ غير المباشر، وإعادة إنتاج الصمت بوصفه فضيلة زائفة.
الفلسفة الأخلاقية هنا تضعنا أمام سؤال قاسٍ: هل يكفي أن ندين الفساد كفكرة، أم أن الواجب يقتضي تسمية الفاسدين ومحاسبتهم؟ إنّ العدالة لا تتحقق عبر تجريدٍ لغوي، بل عبر مواجهة الواقع بما فيه من وقائع وأشخاص. وما دام الناس يحاربون الكلمات الهائمة بدل أن يواجهوا الأسماء الناطقة، فسوف يبقى الفساد كالهواء المسموم: لا يُرى لكنه يتخلل كل رئة.
إنّ المجتمعات التي تفصل بين الأفعال وفاعليها تعيش وهماً أخلاقياً يكرّس العجز، لأنها تتناسى أنّ الفساد يفتك بالنسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي على السواء. فحيث يسود الفساد يضمُر القانون وتُشوَّه العدالة ويُفرغ معنى المواطنة من جوهره، ليغدو الوطن مزرعة يتقاسمها النافذون.
الواجب الأخلاقي والاجتماعي إذن هو إعادة وصل العلّة بالمعلول: لا فساد بلا فاسدين، ولا ظلم بلا ظالمين، ولا استبداد بلا مستبدين. وهذه ليست مجرد معادلة لغوية، بل قاعدة وجودية وأخلاقية، لأن تسمية الأشياء بأسمائها هو الخطوة الأولى في طريق الإصلاح والتحرر. أما الهروب إلى المطلق والمجرد، فليس إلا شكلاً آخر من الاستسلام، بل تواطؤاً مغلّفاً بثوب الحذر.