مهيب الرفاعي
لم يكن الفساد في النظام التعليمي في سوريا خلال عهد النظام السوري البائد مجرد عرَض جانبي لم روجه النظام السوري بعد بدء الثورة السورية على انه ” أزمة” أو حرب أهلية عانت منها البلاد لأكثر من عقد من الزمن، بل كان جزءًا من آليات ترسيخ السلطة والسيطرة على المجتمع بكل تفاصيله من الاقتصاد إلى السياسة إلى التعليم إلى الصحة وغيرها. فمن التعليم المدرسي وصولاً إلى الجامعات بكل تخصصاتها ومراحلها من البكالوريوس إلى الدراسات العليا، كان التعليم ميدانًا تُمارس فيه سياسات الإقصاء والمحسوبية والفساد المنهجي، بما يجعل هذا القطاع يغرق في الفوضى المنظمة، فتعلو قيم التفاهة والإسفاف على حساب قيم التعليم وأخلاقياته ومهنيته. ولتكريس هذه السلطة، كان لابد من تفعيل منظومة لا أخلاقية من منتسبي الاتحاد الوطني لطلبة سوريا والعديد من ممثلي الهيئات الأكاديمية والإدارية بما يجعل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي من معاهد مهنية ومعاهد تابعة لوزارات الدولة الأخرى غير التعليم العالي تغرق في الفساد والمحسوبيات وسوء التعليم ؛ وفي هذا السياق، لعبت السلطة الأكاديمية والاتحاد الوطني لطلبة سوريا دورًا محوريًا في تعزيز هذا الفساد بدلاً من معالجته؛ مع رفض أي تعديل على المناهج بحجة ان البلد عليها حصار مفروض من القوى الامبريالية التي تسعى إلى خنق التعليم و إعادة البلاد إلى مستنقع الجهل، بينما كان هذا هدف النظام فعليًا.
خضع النظام التعليمي السوري لتحكم كامل من النظام الحاكم، الذي استخدمه كأداة لنشر أيديولوجيته والسيطرة على عقول الأجيال. بدلاً من أن يكون التعليم وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، أصبح مصدراً لتكريس عدم المساواة. ومن بين أبرز أشكال الفساد، افساد في المناهج الدراسية المسيسة: التي ركزت على تمجيد النظام وتمرير أيديولوجيته البعثية، مع تقليل مساحة التفكير النقدي أو الانفتاح على وجهات نظر مغايرة، وتقليل فرص البحث العلمي المنهجي القائم على أحدث النظريات والمراجعات الأدبية. تروي طالبة من كلية التربية الرابعة في القنيطرة (وهي كلية تابعة لجامعة دمشق) أن الحلقات البحثية التي كانت تُطلب منهم لم تكن ممنهجة ولم تكن قائمة على أبحاث حقيقية، وكان المشرفون عليها يعتمدون مبدأ “الواسطة” والمحسوبيات والاعتماد على مغريات المال والجنس مقابل إعطاء درجات عالية في المقررات التي تتطلب حلقات بحثية. يتعرض الطلاب حين تقديمهم العروض إلى ما يشبه تحقيقًا أمنيًا حول “الانتماء والولاء للدولة والقائد” بالإضافة إلى أسئلة شخصية وعائلية لا طائل منها سوى معرفة الأخبار والتجسس على الطلاب باستغلال فاضح وواضح للسلطة الأكاديمية وسلطة المنهاج المقدّس. كانت المحسوبية أداة مركزية لتوزيع الموارد والمناصب الأكاديمية، ما أدى إلى تهميش الكفاءات لصالح الولاءات السياسية، سواء من قبل “الاتحاد الوطني لطبة سوريا” أو من خلال الهيئات الإدارية ومجالس الكليات بما يتعين على الطلاب ان يكونوا على ذات العميد لمدة تتجاوز أربع سنوات او سنتين كما تقول إحدى الطالبات من كلية الإعلام في جامعة دمشق على حساب تغييب الأساتذة الكفء في غدارة الكليات والتعامل مع متطلبات الطلاب والمرحلة الاكاديمية التي يعيشونها.
أما بالنسبة لسياسات القبول الجامعي فإن نظام القبول المركزي والتفاضل قد خضع لتأثيرات مباشرة من الأجهزة الأمنية، حيث كانت الولاءات السياسية والأمنية تحدد مستقبل الطلاب في كثير من الجامعات لا سيما جامعات حمص وجامعات اللاذقية ، والكليات الحربية التي كانت مرتعًا لأبناء الضباط والمسؤولين وكبار التجار المعروفين بانتمائهم إلى طبقات النخبة. بعد سقوط النظام والدخول السريع إلى الأفرع الأمنية، وردت عدة تسريبات تفيد ان الأفرع الأمنية كانت تتدخل في ترشيح طلاب للدخول إلى الجامعات بكتاب أمني رسمي يفرض على رؤساء الجامعات تسجيل هؤلاء بالكليات التي يرغبون بالدراسة بها لترضي شغفهم و “بريستيجهم” امام المجتمع على حساب عشرات الطلاب الذين يحرمون كل عام من القبول في المفاضلات بحجة ملء الشواغر. وبالتالي يتم تغليب المصالح الشخصية بين المتنفذين على حساب الكفاءات والمستحقين. يروي طالب طب مسجل في إحدى الجامعات الخاصة أنه حصل على منحة في هذه الجامعة كونه من الطلاب الأوائل في نتائج الثانوية العامة، وعندما ذهب ليسجل، تفاجأ ان اسمه مشطوب من القائمة ووضع على “لائحة الانتظار” بدلاً من المستحقين الفعليين. وبعد التحقيق في الأمر وجد أن ابنة أحد الضباط في جهاز المخابرات قد أخذت مقعده وتم تبديل اسمها من قائمة الانتظار باسمه، يضطر ان يسجل في الجامعة على نفقته الشخصية بعد أن أُغلق نظام القبول في السنة التحضيرية لطلاب الكليات الطبية في الجامعات الحكومية.
أما عن فساد الأساتذة وسوء استخدام السلطة الأكاديمية، فالأساتذة الجامعيون، الذين يُفترض أن يكونوا ركيزة الأخلاق الأكاديمية، انخرط كثيرون منهم في ممارسات فاسدة، إما بسبب الخوف من النظام أو بدافع تحقيق مكاسب شخصية. من بين أبرز هذه الممارسات الابتزاز المالي والجنسي:فبعض الأساتذة استغلوا مناصبهم لابتزاز الطلاب ماليًا مقابل نجاحهم في المواد أو تسهيل مشاريعهم البحثية. وفي حالات أخرى، كان الابتزاز يأخذ طابعًا شخصيًا، بما في ذلك التحرش الجنسي، والدعوات الخاصة تمويل أنشطة خارجة ع القانون بالتعاون مع طلاب من الهيئة الإدارية والاتحاد الطلابي في الجامعات، بالإضافة إلى الغش الأكاديمي حيث ساهمت العلاقات الشخصية والوساطات في تسهيل نجاح الطلاب ذوي العلاقات القوية، بغض النظر عن مستواهم الأكاديمي الحقيقي؛ مع تهميش الأبحاث العلمية وتحويل البحث العلمي إلى مجال مستغل من قبل الأكاديميين لتحقيق مكاسب شخصية أو مالية، مع إهمال معايير الجودة والأخلاق الأكاديمية.
دور الاتحاد الوطني لطلبة سوريا والهيئة الإدارية
لعب الاتحاد الوطني لطلبة سوريا، الذي يُفترض أن يكون ممثلاً للطلاب ومدافعًا عن حقوقهم، دورًا معكوسًا تمامًا، فتحول إلى أداة للنظام:وعملياته القمعية في تكميم الأفواه وفرض السلطة العسكرية مع انهم طلاب في الجامعات وفي الحرم الأكاديمي لكنهم اتبعوا منهج التشبيح على زملائهم لا سيما من محافظات درعا والقنيطرة وحمص وإدلب، مع محاباة طلاب الساحل السوري، و بالنتيجة فقد أصبح الاتحاد ذراعًا أمنيًا للنظام داخل الجامعات، يراقب الطلاب ويبلغ عن أي نشاط معارض. لقد تحول اتحاد كلبة وسرة أيام النظام البائد إلى أداة قمع للتظاهرات لا سيما تلك التي قامت في كلية طب الأسنان عام 2012، و تم قمعها و إبلاغ الأمن العسكري عن أسماء الطلاب حينها و راح ضحية هذا التعسف عشرات الطلاب بين معتقل و قتيل و مغيّب قسريًا ، و انتقل إلى اتحاد تشبيح من خلال سلطاته في السكن الجامعي في المدينة الجامعية وتوزيع المساعدات والأنشطة الطلابية، واستغل الاتحاد نفوذه لممارسة المحسوبية وتفضيل الموالين للنظام؛ و قمع الحريات الطلابي عبر فض أي نشاط سياسي أو ثقافي لا يتماشى مع رؤية النظام كان يواجه بالقمع، بما في ذلك الفصل التعسفي أو الاعتقال.
أدى هذا الفساد إلى انهيار شبه كامل في جودة التعليم الجامعي في سوريا. وخرجت الجامعات السورية من التصنيفات الدولية، وأصبحت الشهادات السورية محل شك عالمي. على المستوى الاجتماعي، تفاقمت مشاعر الظلم واليأس بين الشباب، مما دفع الكثيرين إلى الهجرة بحثًا عن فرص تعليم أفضل.
يسعى الطلاب الآن إلى إنصافهم من هذا الفساد وتنظيف الجامعات من ظلم الهيئات الأكاديمية الفاسدة منها، ولا يجوز التعميم ها، فهناك أساتذة يُحمد ويشكر بهم، وعلى هؤلاء يقع عبء التنظيف والتطهير ليصل الطلاب إلى مجتمع أكاديمي نظيف وحرّ.