الفصائل الفلسطينية.. أزمة مستعصية وحوارات عبثية

ماجد كيالي

ذهب القوم إلى بكين وعادوا، وقبل فترة كانوا في موسكو، وفي الحالين تكرار لنفس الكليشيهات عن الاتفاق على استئناف الحوار، والحرص على الوحدة الوطنية، والتصدي للمخططات الإسرائيلية، مثلما في جولات الحوار السابقة، في القاهرة وغزة والدوحة ورام الله وإسطنبول وصنعاء، ومكة؛ إذ اتفق الفلسطينيون على أن يتحاوروا فقط.

فِي الحقيقة فإن معظم تلك الحوارات والمبادرات ستظل مسكونة بالإحباطات، والإخفاقات، والحسابات أو القيود الذاتية والموضوعية، لسبب بسيط مفاده أن أزمة الساحة الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل) هي من النوع العضوي، المستدام، وهي أزمة شاملة تطال الرؤى والبني وأشكال العمل السياسية، فاقم منها النكبة الحالية، المتمثلة بخراب غزة.

الملاحظة على تلك الحوارات أنها فوقية، وإنها لا تلحظ أوجه العطب المتمثلة في الآتي:

أولا: غياب الحراكات الداخلية والعلاقات الديموقراطية في الكيانات السياسية الفلسطينية السائدة، وغلبة العلاقات الزبائنية، والروح السلطوية، داخلها وفي ما بينها، مع الأخذ في الاعتبار القاعدة او الكتلة الاجتماعية العريضة التي تستند اليها القيادة أو الطبقة السياسية المهيمنة في الحقل السياسي الفلسطيني مع نحو ربع مليون متفرغ يعيلون أكثر من مليون من الفلسطينيين، لا سيما في الضفة والقطاع.

ثانيا: تقادم الحركة الوطنية الفلسطينية وشيخوختها، بعد 59 عاما على نشوئها، وقد استهلكت الإنجازات الوطنية التاريخية التي حققتها في بداياتها.

ثالثا: اعتماد تلك الحركة في مواردها على الخارج وليس على شعبها، أي أن ذلك يجعلها «متحررة»، وتاليا متسلطة، في علاقتها بشعبها ولكن مرتهنة إزاء الخارج.

رابعا: تمزق وتشتت المجتمع الفلسطيني وتوزعه على دول عدة وخضوعه لسياسات وقيودات مختلفة، ما يضعف عوامل القوة لديه ويهمش قدرته على الضغط على وفصائله.

خامسا: تحول الحركة الوطنية الفلسطينية الى سلطة تحت سلطة الاحتلال، لجزء من الشعب الفلسطيني، على حساب الشعب كله، وقضيته وهويته الوطنية وسرديته التاريخية الجامعة، التي أسست لتلك الهوية وللكيانية المتمثلة بمنظمة التحرير، أي أن الفلسطينيين يتعاملون مع سلطة بأجهزة أمنية وعسكرية وموارد مالية ووسائل هيمنة وسيطرة (في الضفة وغزة)، وكلها تضعف قيام مجتمع مدني أو تحد من حراكاته، والواقع في دول اللجوء أكثر صعوبة وتعقيدا، يفاقم ذلك تهميش منظمة التحرير، وافتقاد الفلسطينيين لكيان سياسي جامع ولمشروع وطني جامع، وظهور أولويات أو أجندات مختلفة لكل تجمع من تجمعاتهم.

أما يصعب من تخليق البديل، فثمة ملاحظات حول ذلك، أهمها:

أولا: إن أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية ظهرت بداية في منتصف السبعينات من القرن الماضي، أي بعدما وصلت تلك الحركة إلى سقفها الممكن، أو بعد تحقيقها الإنجازات الوطنية المناطة بها، وفقا للمعادلات التي نشأت عليها، بواسطة الكفاح المسلح من الخارج مع الاعتماد على حاضنة عربية.

فبعد 15 عاما على انطلاقها، استطاعت الحركة الوطنية الفلسطينية استنهاض الشعب الفلسطيني المجزّأ والمشتت وتوحيده، وتأسيس كيانه الوطني (منظمة التحرير)، وتعزيز هويته الوطنية الجمعية، ووضع قضيته في سلم الأجندات العربية والدولية، وتحقيق الاعتراف العربي والدولي بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد له (عبر قرار قمة الرباط ووصول ياسر عرفات إلى منصة الأمم المتحدة).

ولنلاحظ هنا أن الفصائل الفلسطينية بعد ذلك لم تضف أي إنجاز يذكر، إذا استثنينا تجربة الانتفاضة الشعبية الأولى (1987 ـ 1993)، في الضفة وغزة، التي هي في شكلها الأساسي نتاج لتجربة الداخل، أكثر مما هي نتاج لفعل الفصائل في الخارج؛ من دون التقليل من علاقات التأثير المتبادل.

ثانيا: لم تبدأ الأزمة الوطنية الفلسطينية اليوم، وهي لا تتوقف على أفول تجربة الكفاح المسلح في الخارج، بعد الخروج من لبنان (1982)، ولا على توقيع اتفاق أوسلو (1993)، أو الانقسام الفلسطيني (2007)، أو انسداد حل الدولتين، أو اهتزاز الشرعية، وإنما هي أعمق وأشمل من كل ذلك، فهي أزمة كيانات، ورؤى، وعلاقات، وأشكال كفاح، فاقم منها تحول الحركة الوطنية الفلسطينية، من حركة تحرر إلى سلطة (تحت الاحتلال)، لجزء من شعب في جزء من أرض مع جزء من حقوق، وهذا ليس تفصيلا بسيطا، أو طارئا، لذا فهذا يعني أن الفلسطينيين بحاجة لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني وليس إلى تجديد قديم لبنى وأفكار وأشكال عمل باتت مستهلكة ومفوّتة.

وفقا لما تقدم فإن معضلة الحركة الوطنية الفلسطينية لم تكن في تبني هذا الخيار السياسي والكفاحي أو ذاك، وإنما في طريقة إدارة تلك الخيارات، وفي العطب البنيوي في الكيانات الفلسطينية (طبعاً إضافة الى الواقع الموضوعي)؛ مع ملاحظة أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تراجع ولا مرة تجربتها لا في الأردن ولا في لبنان ولا في الأرض المحتلة، لا التجربة العسكرية ولا السياسية، لا تجربة المقاومة ولا الانتفاضة ولا المفاوضة، لا بناء المنظمة ولا بناء السلطة.

ثالثا: إن الافتقاد للرؤية السياسية الجامعة، أو الهدف الجامع، هو أحد الأسباب المؤسسة للأزمة الوطنية الفلسطينية، ولتصدع اجماعات الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم.

ومعلوم أن الحركة الوطنية الفلسطينية انطلقت قبل احتلال إسرائيل الضفة وقطاع غزة (في العام 1967)، وكان الهدف الجامع هو تحرير فلسطين، وهذا استمر حتى بعد الاحتلال إلى منتصف السبعينات حيث بدأ التحول نحو البرنامج المرحلي، بداية من الدورة 12 للمجلس الوطني الفلسطيني (1974).

من الواضح هنا أن التحول الى سلطة، مع تغيير السردية الوطنية المؤسسة لهوية الفلسطينيين، وكينونتهم السياسية، القائمة على النكبة وإقامة اسرائيل وولادة مشكلة اللاجئين (1948)، الى سردية تفيد بأن الصراع مع إسرائيل بدأ باحتلال الضفة وغزة (1967)، وهو خطاب السلطة، هو تحول عبثي ومجاني، وأدى الى تفكيك مفهوم وحدة الشعب الفلسطيني وتفكيك قضيته، لذا فإن أي مبادرة يفترض أن تنطلق من رؤية تستعيد التطابق بين وحدة الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، وأن تبني أي حل على قيم الحرية والكرامة والمواطنة، وعلى قاعدتي الحقيقة والعدالة، ولو النسبيين، طالما ليس بالإمكان حسم الشكل الدولتي؛ أي أن الجدل بخصوص دولة أو ربع دولة أو اثنتين أو ثلاث فهو خارج الواقع المنظور كما بينت التجربة.

رابعا: ثمة ملاحظة أساسية أخرى مفادها أن الحركة الوطنية الفلسطينية استدرجت مبكرا إلى مربع تجزئة قضيتها، وبالتالي تجزئة رؤيتها لإسرائيل، بحيث باتت كدولة احتلال واستيطان في الضفة وغزة فقط (وكدولة عنصرية إزاء الفلسطينيين جميعا)، كأن ذلك بدأ مع احتلال 1967، وليس مع إقامتها منذ 1948 على هذا الشكل، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية إزاء الشعب الفلسطيني، في أي مكان، قبل احتلال 1967 وبعده.

في المقابل، ظلت إسرائيل تتعامل مع الفلسطينيين كشعب عدو وفقا لاستراتيجية واحدة، قبل قيامها وبعده، قائمة على الاستعمار والاقتلاع والاستيطان والتمييز العنصري، عبر سياسات ونظم قانونية مختلفة، لتجزئتهم وتفكيك قضيتهم وتذويب حقوقهم، وظلّت تتعامل مع فلسطين كوحدة متكاملة، أو كوطن قومي لليهود حتى بعد اتفاق أوسلو، في حين انطلى ذلك على الحركة الوطنية الفلسطينية التي باتت تتصرف وفقاً لما تقدم، تبعاً لأوهامها بإمكان قيام دولة لها في الضفة وغزة، بواسطة المفاوضات، وهو أمر بات من المهم إدراكه في نقاشات الأزمة والبديل.

من ذلك يمكن الاستنتاج، أولا: إن الفلسطينيين إزاء صراع صعب ومعقد ومركب، ومتداخل مع الأوضاع العربية والدولية، ثانيا: إنهم في سعيهم لبناء بديل في العمل الوطني الفلسطيني، لا بد أن يشمل الرؤى والكيانات وأشكال العمل والعلاقات، ثالثا: إن واقع الفلسطينيين بعد نكتبهم في غزة، يحتاج إلى مراجعة نقدية جدية وحاسمة لكل التجربة السابقة.

شاهد أيضاً