في لحظة دقيقة سياسيًا، وبينما تتكثف التحركات الدبلوماسية لإحياء خطوط التواصل بين إيران والولايات المتحدة في مسقط، اهتزت الساحة الدولية بكشف جديد وخطير عن مشروع نووي سري تابع للنظام الإيراني. هذا الكشف، الذي أعلنته ممثلية المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية في واشنطن في 8 من أيار/مايو الجاري، أعاد إشعال النقاش حول النوايا الحقيقية لطهران، وفرض على المجتمع الدولي مواجهة واقعية تتجاوز وعود التهدئة ومناخ التفاوض.
قوس قزح: واجهة مدنية لبرنامج عسكري
الموقع محلّ الجدل، الذي عُرف باسم “قوس قزح”، يمتدّ على مساحة تقارب عشرة آلاف دونم في منطقة إيوانكي شرق طهران، ويعمل تحت غطاء شركة “ديبا إنرجي سينا” المختصة ظاهريًا بإنتاج مواد كيميائية للصناعات النفطية والبتروكيماوية. إلا أن المعلومات التي قدمتها المقاومة الإيرانية، والمبنية على مصادر داخلية في بنية النظام، تشير إلى أن الموقع جزء من مشروع عسكري لتطوير أجزاء حساسة تدخل في تركيب الرؤوس النووية، بهدف تعزيز قوة الصواريخ الإيرانية العابرة للقارات بمدى يتجاوز 3000 كيلومتر.
ليست هذه المرة الأولى التي تكشف فيها المقاومة الإيرانية عن مواقع نووية سرية للنظام؛ فقد سبق أن فضحت مواقع نطنز وأراك وتورقوزآباد، وهي إفشاءات تحوّلت لاحقًا إلى حقائق لا يمكن إنكارها، بل اضطرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى الاعتراف بها والضغط باتجاه التحقيق فيها.
توقيت مربك وردّ فعل غاضب
ما يجعل هذا الكشف مختلفًا هذه المرة ليس فقط مضمونه، بل توقيته الحرج. فالمفاوضات غير المباشرة التي تُجرى حاليًا في عُمان بين إيران والولايات المتحدة تُروّج لها طهران كعلامة على نيتها في تهدئة التوتر والانخراط مجددًا في مسار دبلوماسي. لكن المعلومات المسرّبة عن منشأة قوس قزح تعيد إلى الواجهة نمطًا ثابتًا من المراوغة والخداع: التفاوض بيد، والتخصيب والتصنيع العسكري باليد الأخرى.
ردّ النظام الإيراني لم يتأخر، وجاء حادًا على غير العادة. فقد سارع عباس عراقجي، أحد أبرز وجوه المفاوضات النووية السابقة، إلى وصف الكشف بأنه “محاولة مفضوحة لإفساد أجواء الحوار”، في حين ذهبت بعثة النظام في الأمم المتحدة إلى أبعد من ذلك، ووصفت التقرير بأنه “مختلق بالكامل” من قبل منظمة مجاهدي خلق. هذه اللهجة المتوترة لم تكن دفاعًا فنيًا، بل تعبيرًا عن ارتباك سياسي، خاصة أن المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية سبق أن أحبط مرات عديدة قدرة النظام على التمويه والتعتيم، وأحرجه أمام المجتمع الدولي بوقائع لم يستطع طمسها.
أوروبا تعيد النظر.. والزناد على الطاولة
ما يضاعف من وقع الفضيحة، أن الكشف ترافق مع موجة جديدة من المطالب الدولية الداعية إلى التحقيق الفوري في الموقع الجديد، وسط أنباء عن تنامي الضغوط داخل العواصم الأوروبية لتفعيل آلية “الزناد” (Snapback) التي من شأنها إعادة فرض العقوبات الدولية تلقائيًا على إيران.
وبينما تلوّح حكومة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بأنها تمثل تيارًا معتدلًا يسعى إلى استقرار المنطقة، تكشف الحقائق المتتالية أن طهران لم تتوقف يومًا عن تعزيز برنامجها النووي والصاروخي، بل باتت أكثر جرأة في دمجه ضمن سياستها الإقليمية التوسعية، من خلال أذرعها العسكرية ووكلائها الممتدين في سوريا ولبنان والعراق واليمن.
ما وراء التخصيب: خطر إقليمي متصاعد
ليست خطورة الفضيحة في بعدها التقني فحسب، بل في دلالاتها السياسية والاستراتيجية. فهي تأتي بعد شهور فقط من هجوم 7 أكتوبر الذي قلب موازين الشرق الأوسط، وفي وقت تتصاعد فيه المخاوف من انزلاق الإقليم إلى مواجهة شاملة بين إيران وإسرائيل. هذا يجعل امتلاك طهران لقدرات نووية هجومية – حتى وإن لم تصل بعد إلى مرحلة القنبلة – تهديدًا مباشرًا لبنية الردع والاستقرار في المنطقة.
كما أن كشف المشروع النووي الجديد يعزز موقف أولئك الذين يحذرون من وهم التعويل على الحوار وحده كمسار لتغيير سلوك النظام الإيراني. فقد أثبتت التجربة – مرارًا – أن النظام لا يقدّم شيئًا إلا تحت الضغط، ولا يتخلى عن برامجه إلا اضطرارًا.
كشوفات المقاومة الإيرانية تقلب الطاولة مرة أخرى على طهران
في هذا السياق، يكتسب الدور الذي تلعبه المقاومة الإيرانية أهمية متزايدة. فهي لا تقتصر على العمل السياسي المعارض، بل باتت فاعلًا استخباريًا عالي المستوى، يكشف ما تخفيه أجهزة الدولة العميقة الإيرانية عن العالم. وقد نجحت عبر العقود في بناء شبكة معلومات داخل النظام، مما سمح لها بتقديم أدلة دامغة، غالبًا ما اضطرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتعامل معها بجدية.
لكن هذه الإنجازات، مهما بلغت أهميتها، لن تكون كافية ما لم تقترن بإرادة دولية حقيقية لتقييد النظام الإيراني وقطع الطريق أمام تحوّله إلى قوة نووية صريحة أو “عتبة نووية”.
في الختام تعيد فضيحة “قوس قزح” طرح السؤال القديم الجديد: هل يمكن الوثوق بنظام يراوغ منذ أكثر من عقدين، ويخفي منشآته خلف واجهات مدنية، ويتلاعب بمفردات الحوار لتأمين الزمن اللازم للمضي في طموحاته العسكرية؟
ربما حان الوقت لتجاوز منطق المساومة، والاعتراف بأن التهديد لا يكمن فقط في تخصيب اليورانيوم، بل في طبيعة النظام نفسه.
كاتب سوري باحث في الشأن الإيراني وضابط مهندس منشق
syria.tv