الفكر ضد السلطة: جدلية الصراع الأبدي بين الحرية والقوة:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

على مر العصور، لم يتوقف الصراع المحتدم بين السلطة الحاكمة والفكر الحر، بل ظل التاريخ يرصده، مثبتاً في كل لحظة الواقع المعيش، ومبيناً أنّ كل انحراف للسلطة عن الحق والعدالة والشرعية يُثير في المقابل تصدي الفكر لها بقوةٍ ومثابرة. ففي الخفاء تدور مساجلات ونقاشات حادة بين القطبين، وقد دُوّنت في سجلات التاريخ، لتمنح الباحث فرصة استقصاء ما خفي وما ظهر من هذا الصراع المتواصل.
ولا يقتصر احتدام المعركة بين الفكر والسياسة على الوسائل المادية، كالسجن أو النفي أو التصفية الجسدية، بل تشمل أساليب أقل وضوحاً، لكنها بالغة الفعالية، مثل التهميش والتعتيم والإقصاء. فالسلطة، بطبيعتها البراغماتية، تسعى إلى احتواء الفكر وترويضه، بينما يظل الفكر المقابل اللدود لها، حيث هو السلاح الأخطر في مواجهة الهيمنة والإرهاب الرمزي للسياسة الخارجة على القوانين والشرعية.
لقد طرح رجال السياسة، عند خروجهم من السلطة، تساؤلات حارقة حول مخاوفهم من الفكر؛ لماذا يُرهب الفكر السلطة؟ ولماذا تخشى الهيمنة عليه؟ الجواب يكمن في قدرة الفكر على شلّ ألاعيب السياسة وفضح البراغماتية المطلقة، كما أوضح نيكولو ميكافيللي في كتابه الأمير. لقد أظهر التاريخ أمثلة لا حصر لها على تفوّق الفكر على السلطة، حتى حين حاولت الأخيرة ابتزازه واستغلاله لأهدافها.
أحد أبرز الأمثلة التاريخية على استغلال الفكر لصالح السلطة، كان خلال الحرب العالمية الثانية، حين أُجبر العلم والفكر على تطوير القنبلة الذرية في الولايات المتحدة بهدف القضاء على العدو الياباني، ما أفضى إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل لأول مرة في هيروشيما وناغازاكي عام 1945، وهو مثال صارخ على استغلال الفكر لصالح أجندة سياسية مدمرة.
ومع ذلك، يظهر التاريخ دائماً صلابة الفكر وتجاوزه للهيمنة السياسية. فقد لعب المفكرون والكتاب الفرنسيون دوراً محورياً في تمهيد الطريق للثورة الفرنسية، ورسموا آفاق الحرية أمام الشعوب، بينما ظل الفكر يقاوم سلطات الطغيان في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا. مثال حي على ذلك هو الروائي والصحفي والدبلوماسي الغواتيمالي ميغل أنخل أستورياس، صاحب رواية السيد الرئيس (1946)، التي فضحت استبداد السلطة الدكتاتورية في غواتيمالا، ونالت له جائزة نوبل للأدب عام 1967. فقد كشف أستورياس، بأسلوب ساخر وواقعي سحري، قسوة الأنظمة المستبدة، مؤكداً أن الفكر قادر على فضح الطغيان وتغيير التاريخ، حتى ولو ظلّ محجوباً أو ممنوعاً في أوقات معينة.
ومن هذا المنظور، يمكن القول إن الفكر الحر هو الضمانة الحقيقية لاستمرارية الشعوب وحقوقها وحرياتها. عندما يُخضع الفكر للسياسة، تتقهقر الأمة وتغيب العدالة، ويزدهر الجهل والفقر والقمع. أما حين ينال الفكر حريته، فلا سلطة، مهما عظمت، قادرة على مواجهته، ويصبح امتداد الفكر الحر أبدياً ومتجدداً، ما يضمن سقوط الاستبداد في النهاية لصالح إرادة الإنسان وحقه في المعرفة والعدالة.
إن الصراع بين الفكر والسلطة ليس مجرد جدلية سياسية، بل هو رحلة إنسانية مستمرة، تعكس جدلية الحرية والقوة، بين قمع السلطة واستقلال الفكر، وبين الظلام والوعي، وبين السقوط والانتصار. وفي النهاية، يظل الفكر الأقوى والأبقى، مهما استبدّت السلطة أو استخدمت كل وسائلها للقمع.