الفلسطينيون ومشكلة امتلاك برنامج سياسي

باسم برهوم

في قديم المراحل لم يكن شعبنا الفلسطيني، ولا حتى حركتهم الوطنية، يمتلك برنامجا سياسيا وخطة عمل متفق عليها، يلزمون بها أنفسهم، ويتقيدون في تنفيذها بشكل موحد، هذا الأمر يسري على معظم تجربة الحركة الوطنية قبل العام 1948، ان لم يكن كلها. كما وينطبق كذلك على معظم تجربة الحركة الوطنية بعد ذلك، اي تجربة الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وان اول محاولة جدية لتبني برنامج سياسي جرت عندما طرحت فتح نهاية العام 1968، ومطلع 1969، فكرة الدولة الديمقراطية العلمانية، ومن ثم ظهر اول برنامج وان بمخاض عسير وبشكل ملتبس بعد حرب تشرين الاول/ أكتوبر العام 1973، وبالتحديد عندما تبنت المنظمة مبدأ الحل المرحلي واقامة سلطة وطنية فلسطينية على اي شبر يتم تحريره من فلسطين، والمعروف ببرنامج النقاط العشر للعام 1974. وهي امور سيجري توضيحها لاحقا.

قبل نكبة العام 1948 ظهرت الحركة الوطنية وبدات اولى خطواتها في مواجهة الاحتلال البريطاني لفلسطين، ووعد بلفور والمشروع الصهيوني الذي جاءت بريطانيا به إلى فلسطين من اجل تنفيذه. والظهور المشار اليه بدأ متعثرا وهشا، فهذه الحركة كانت تعتبر نفسها حتى ذلك الحين جزءا من الحركة القومية العربية، وتعتبر فلسطين “سوريا الجنوبية” لذلك كان الهدف قوميا، ويؤكد ان فلسطين هي جزء من سوريا. واكتفى اول مؤتمر لهذه الحركة عام 1919 برفض وعد بالفور على الصعيد الوطني. بعد سقوط الدولة العربية، دولة الملك فيصل في دمشق عام 1920، ورسم حدود سايكس بيكو، بدات الحركة الوطنية الفلسطينية تحصر اهدافها بفلسطين وشعبها على نحو وطني، مع الاحتفاظ بالرابط القومي، اي ان فلسطين ستبقى جزءا من سوريا الكبرى.

طوال حقبة الانتداب البريطاني، ومع ما رافقها من نمو متزايد للمشروع الصهيوني الساعي لإقامة ما اسماه هذا المشروع بالوطن القومي اليهودي، المنصوص عليه في وعد بلفور وصك الانتداب، كان برنامج الحركة الوطنية أقرب إلى مطالب منها إلى برنامج سياسي له اهداف محددة مرحلية واستراتيحية، وله اشكال وادوات نضالية واضحة، وبالإضافة إلى خطة عمل، وخطة عملية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وعلى صعيد تعزيز الصمود على الأرض. وباستثناء مرات قليلة، امتلكت خلالها قيادة الحركة الوطنية خطة وعملا نضاليا منظما، في تلك المرحلة، فإن الحركة الوطنية بقيت لسنوات تكتفي بتقديم مطالب للحكومة البريطانية، بأن توقف الهجرة اليهودية، وتمنع انتقال الأراضي لليهود، وأن تتخلى بريطانيا عن إقامة “الوطن القومي اليهودي”، وتدعو هذه القيادة إلى إقامة حكومة وطنية تمثل امام برلمان منتخب، وهكذا استمرت الامور حتى العام 1948.

اما بما يتعلق بالحركة الوطنية بعد النكبة. اي تجربة منظمة التحرير الفلسطينية، وتجربة الثورة الفلسطينية المسلحة، بما فيها من فصائل. ففي السنوات الأولى لها كانت تطرح فكرة الحرب الشعبية طويلة الأمد. لتحرير فلسطين، ولم يكن لها أي برنامج سياسي يراعي الظروف الموضوعية والذاتية، او ميزان القوى الاقليمي والدولي، ولم يكن من المسموح في البدايات حتى الحديث عن الوسائل السياسية، او اشكال أخرى للنضال سوى البندقية والكفاح المسلح. ولكن بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، وعندما بدات الثورة الفلسطينية التفكير في إقامة علاقات مع الدول والاحزاب في أوروبا والعالم، وعندما ارسلت إلى العواصم الاوروبية اولى بعثاتها، طرح سؤال البرنامج السياسي، فقد سأل اليسار الفرنسي مندوب فتح في باريس آنذاك محمد ابو ميزر (ابو حاتم) مسؤول العلاقات الخارحية في الحركة، ما هو برنامجكم السياسي، ومن ذلك السؤال طرحت فتح شعار الدولة الديمقراطية العلمانية، التي يمكن ان يعيش فيها العرب واليهود على قدم المساواة.

وبالرغم ان شعار الدولة الديمقراطية، الذي صاغه نبيل شعث في كتيب حمل عنوان الدولة الديمقراطية، قد مثل اول برنامج سياسي لفتح ولاحقا لمنظمة التحرير، إلا أنه لم يتحول بالفعل إلى برنامج عمل حقيقي وبقي شعارا. اما اول برنامج تبنته وصاغته المنظمة وكان حوله ما يشبه الإجماع، هو برنامج النقاط العشر، الذي سبقت الإشارة اليه، فقد طرح بعد حرب العام 1973، عندما لاح في الافق ان هناك تغيرا قد حصل في ميزان القوى قد يسمح بإقامة دولة فلسطينية على اجزاء من أرض فلسطين التاريخية.

البرنامج الاكثر أهمية، وربما هو الوحيد الذي يمتلك مواصفات البرنامج السياسي العقلاني، هو الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر العام 1988، على وقع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ورغبة قيادة المنظمة للاستثمار في هذا المتغير الكبير قبل ان تتآكل الانتفاضة، وهو البرنامج الذي تضمن إعلان الاستقلال، وإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 وعاصمتها القدس، الذي اطلق عليه برنامج السلام الفلسطيني، ولاحقا اصبح بما يعرف المشروع الوطني الفلسطيني، الذي لا يزال هو برنامج الشعب الفلسطيني.

ما يقلق اليوم وجود تيار داخل الشعب الفلسطيني يرغب في إعادة عقارب الزمن إلى الوراء. إلى تلك المراحل، التي كانت تطرح خلالها الشعارات الكبيرة غير القابلة للتحقيق.

ما كان ينقص الحركة الوطنية تاريخيا ليس البرنامج السياسي وحسب، وإنما ان يكون لهذه الحركة برنامج عمل من شأنه تعزيز صمود الإنسان الفلسطيني على أرض وطنه، برنامج يتعلق بالوعي الوطني وتعميقه، بموازات خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وايضا ان يمتلك شعبنا بنية تحتية تخفف خسائره وقت الحروب، مثل الملاجئ والاماكن المحصنة، وهو ما لم يكن موجودا في قطاع غزة.