الفن بوصفه سؤالًا وجوديًا : لمى مهنا، وحوارات حول المدينة، السلطة، والصورة واللون

 مهيب الرفاعي

وُلدت الفنانة التشكيلية لمى مهنا في دمشق، في عائلة ذات خلفية أدبية وفنية واضحة، كان لها أثر مباشر في تشكيل وعيها المبكر بالصورة والنص معًا، وفي بناء علاقتها بالفن بوصفه أداة تفكير قبل أن يكون ممارسة جمالية. فهي ابنة الأديب والقاصّ ناظم مهنا، الذي شغل منصب رئيس تحرير مجلة ” المعرفة” بين عامي 2016 و2023، الأمر الذي أتاح لها منذ سنواتها الأولى الاحتكاك بالفضاء الثقافي والفكري السوري، ومتابعة النقاشات الأدبية والفنية بوصفها جزءًا من الحياة اليومية لا نشاطًا هامشيًا. درست مهنا في الجامعة اللبنانية، وتخرّجت في كلية الفنون الجميلة والعمارة، حيث تلقت تكوينها الأكاديمي في بيئة تعليمية منفتحة على التجارب البصرية العربية والعالمية، وعلى تقاطعات الفن مع العمارة والمدينة والفضاء العام. وقد أسهم هذا المسار في ترسيخ اهتمامها بالمكان بوصفه عنصرًا مركزيًا في العمل الفني، ليس من زاوية الشكل فقط، بل من حيث ما يحمله من ذاكرة وتحولات اجتماعية وسياسية.

بعد تخرّجها، بدأت مسيرتها الفنية الخاصة من خلال عدد من المعارض الفردية والجماعية في مدينتي حلب واللاذقية، حيث اشتغلت على مقاربات بصرية تتقاطع فيها التجربة الشخصية مع التحولات العامة التي شهدتها المدن السورية خلال السنوات الماضية. وتعمل مهنا اليوم على التحضير لمعرض جديد في دمشق بعنوان ” الفضاء بعد الانهيار”، ضمن رؤية فنية مختلفة تسعى إلى إعادة قراءة الفضاء الحضري السوري بلغة بصرية حديثة، تأخذ في الاعتبار تعقيدات المدينة المعاصرة، وتحاول مقاربة تحوّلاتها بوصفها عملية مستمرة لإعادة إنتاج المعنى الثقافي والحضاري، لا مجرد استعادة شكلية للمكان.

البنية التحتية للفن السوري

انطلاقًا من سؤال موقع الفن التشكيلي السوري اليوم داخل اقتصاد الثقافة، ترى الفنانة التشكيلية لمى مهنا أن هذا الفن لم يتحول بعد إلى مادة ساكنة في أرشيف الذاكرة، رغم كل ما أصابه من تآكل بنيوي. فبحسب قراءتها، لا يزال العمل التشكيلي السوري قادرًا على التداول والتأثير، لكن ضمن سوق هشّة ومجزأة، تحكمها شروط خارجية أكثر مما تحكمها معايير فنية مستقرة. وفي هذا السياق تحديدًا، تشير مهنا إلى أن الاهتمام العربي والدولي بالفن السوري ما يزال قائمًا، غير أنه غالبًا ما يُدار من زاوية ما بعد الصراع ، حيث يُعاد إنتاج العمل الفني بوصفه وثيقة ألم أو شاهدًا بصريًا على العنف، لا بوصفه ممارسة جمالية مستقلة. ومن هنا، ينشأ التوتر الأساسي بين الفن كخطاب مفتوح، والفن كسلعة محمولة على سردية جاهزة، إما تُجمّله الصالات أو تُجمّده الأرشيفات.

ولا يمكن، وفق لمى مهنا، فصل هذا الواقع عن غياب البنية المؤسسية التي كان من المفترض أن تشكّل الحاضنة الطبيعية للإنتاج الفني. فعند التوقف عند مسألة الاستمرارية المهنية، تظهر صورة الفنان بوصفه فاعلًا يعمل في فراغ شبه كامل، يتحمل بمفرده أدوارًا متراكبة لا تنتمي جميعها إلى المجال الإبداعي. وفي هذا الإطار، لا يُقدَّم “الاستقلال” بوصفه إنجازًا، بل بوصفه نتيجة اضطرارية لانسحاب المؤسسات. فالفنان هنا لا يعمل بحرية، بل ينجو؛ يدير نفسه كمشروع فردي، ويستهلك طاقته في إدارة ما يحيط بالعمل أكثر مما يستهلكها في العمل نفسه. ومن هذه الزاوية، يصبح السؤال الاقتصادي سؤال وجود، لا سؤال مهنة فقط.

الفنان و السلطة و الفراغ السياسي

وعند الانتقال إلى العلاقة بين الفن والسلطة بعد سقوط نظام الأسد والتحولات السياسية التي أعقبت 2024، تتضح، بحسب مهنا، صورة أكثر تركيبًا؛ فالرقابة لم تتراجع بقدر ما أعادت توزيع نفسها،  وفي هذا المشهد، لا تظهر الرقابة كجدار واحد صلب، بل كسلسلة من الضغوط المتقاطعة؛ سلطة رسمية تعيد ترتيب أولوياتها، تفرض خطوطًا غير معلنة، سوق فني ينتقي ما هو قابل للعرض ، وفنان يمارس رقابة ذاتية تحسبًا للخسارة أو الإقصاء. وفي المقابل، ورغم اتساع الفضاء الرقمي وما وفره من أدوات تعبير جديدة، فإن هذا الاتساع لم يُترجم إلى وضوح ثقافي أو مشروع معرفي جامع. وعلى مستوى آخر، ترى لمى مهنا أن الدولة الجديدة ما تزال بعيدة عن الثقافة والمنتج الثقافي العالمي بوصفه ركيزة تأسيسية، وتتعامل مع الفن في أحسن الأحوال كعنصر تزييني في مشهد سياسي واجتماعي لم يحسم علاقته بالإنتاج الرمزي بعد.

ومن هذه النقطة تحديدًا، يبرز البعد الاجتماعي بوصفه عنصرًا حاسمًا في فهم الخطاب البصري السوري الراهن،  فالتحولات الطبقية التي شهدها المجتمع انعكست مباشرة، كما توضّح مهنا، على من ينتج الفن، وكيف ينتجه، ولماذا. إذ لم تعد النخبة الثقافية التقليدية هي الفاعل الأساسي، بل صعد جيل واسع من الفنانين المنتمين إلى طبقات متوسطة وفقيرة، يحملون معهم شروط العيش القاسية إلى داخل العمل الفني نفسه. وفي المقابل، وعند مقاربة العلاقة مع الجمهور، لا يُنظر إليه بوصفه متلقيًا يبحث عن الجمال، بل بوصفه فاعلًا منهكًا، يعيش أزمات متراكمة تجعل الفن أحيانًا ترفًا مؤجلًا، وأحيانًا أخرى مساحة تنفّس نادرة. ومن هنا، يصبح الحديث عن مشهد فني موحد أقرب إلى توصيف نظري، فيما الواقع يشير إلى أفراد يعملون في جزر متباعدة، يجمعهم السياق أكثر مما تجمعهم البنية.

أثر التكنولوجيا

وعلى مستوى آخر لا يقل أهمية، تفرض التكنولوجيا حضورها بوصفها معطى لا يمكن تجاوزه. فالصورة الرقمية، بما تملكه من سرعة وانتشار، أعادت تعريف العلاقة بين الفن والجمهور، دون أن تلغي الحاجة إلى العمل التشكيلي المادي، الذي ما يزال يحتفظ، وفق رؤية لمى مهنا، بعمقه وبطئه وقدرته على التراكم. وفي هذا السياق، يدخل الذكاء الاصطناعي كأداة جديدة تثير أسئلة أكثر مما تقدم إجابات، حيث يُنظر إليه بوصفه مساعدًا ممكنًا لتوسيع الخيال، لا بديلاً عن الفعل الإنساني. وتذهب القراءة هنا أبعد من الجدل التقني، لتشير إلى أن الخطر الحقيقي يكمن في منطق الاستهلاك السريع، الذي يهدد بتحويل الفن إلى منتج لحظي يفقد قدرته على التأمل والتراكم المعرفي.

وفيما يتعلق باستقلال الفنان وقدرته على الاستمرار، يعود السؤال الاقتصادي ليطرح نفسه بصيغة أكثر حدّة. فالنموذج السائد اليوم، كما تصفه مهنا، لا يقوم على الاستقرار، بل على إدارة الهشاشة،  معارض جماعية، أعمال صغيرة، ومهن موازية تضمن الحد الأدنى من العيش. وفي هذا الإطار، يظهر التحول نحو صناعة المحتوى كحل اضطراري للحفاظ على المرئية، لكنه يحمل في طياته خطر اختزال التجربة الفنية في صورة سريعة قابلة للنسيان. وفي المقابل، لا تُلغى المعارض التقليدية، بل يُعاد تعريف دورها ضمن نموذج هجين يدمج بين اللقاء الفيزيائي والحضور الرقمي.

وعند التوقف عند مسألة المعرفة البصرية، تتكشف، وفق قراءة لمى مهنا، فجوة واضحة بين التحولات الجارية وما تنتجه المؤسسات التعليمية. فالكثير من الأكاديميات ما تزال أسيرة مناهج قديمة، لا تواكب التحولات المفاهيمية والتقنية. ومن هنا، يضطر الفنانون الشباب إلى بناء مرجعياتهم خارج الإطار الأكاديمي، عبر مصادر مفتوحة وتجارب شخصية عابرة للحدود. ورغم أن الفن السوري بدأ يتحرر تدريجيًا من إرث الحداثة الكلاسيكية، إلا أن هذا التحرر لم يُترجم بعد إلى نمط بصري متماسك، في ظل غياب نقد فني جاد قادر على التحليل والمساءلة والتنظير.

الفن والمكان و الفراغ

ولا يمكن الحديث عن الفن السوري اليوم دون التوقف عند علاقة الفنان بالمدينة؛ فالمدن التي تغيّرت جذريًا بين 2011 و2025 لم تعد فضاءات محايدة، بل تحولت، كما تقول مهنا، إلى طبقات من الذاكرة والجرح والتحولات الديموغرافية. ومن هذا المنطلق، يصبح تمثيل المدينة فعلًا سياسيًا ضمنيًا، حتى عندما يتجنب الخطاب المباشر. الفن هنا لا يوثّق السيطرة والعنف فحسب، بل يرسم خرائط غير رسمية؛ خرائط الغياب والاعتقال القشري والتهجير والنزوح بسبب نظام الأسد الذي حكم البلاد أكثر من نصف قرن ، والانكسار، والحنين، وحدود العيش المشترك التي لا تظهر على الخرائط الرسمية.

وفي المحصلة، وعند سؤال الفن عن دوره، لا يُقدَّم بوصفه أداة تعبير فقط، بل كأداة تحليل. فالعمل الفني، وفق هذا المنظور الذي تطرحه لمى مهنا، لا يسعى إلى تبسيط الواقع السوري، بل إلى تفكيكه، وقراءة طبقاته المتداخلة. وتُختَتم هذه القراءة بالقول إن أي تقرير بصري عن سوريا اليوم لن يبدأ بالمشهد الكبير أو بالرموز الجاهزة، بل بالتفاصيل الصغيرة: وجوه الناس العاديين، الأشياء المهجورة، الضوء الذي يتسلل إلى الفراغات المهدمة، والألوان التي ترفض اختزال البلاد في لون واحد. وبهذا المعنى، يصرّ الفن السوري على البقاء داخل السؤال، لا خارجه، بوصفه ممارسة معرفة في زمن فقدت فيه الإجابات يقينها.