يأتي رحيلك عن دنيانا الفانية وسط حرب إبادة جماعية تتواصل حلقاتها ضد الشعب الفلسطيني. عشت فصولها تباعا منذ مولدك قبل 93 عاما في قرية جينصافوط الفلسطينية، وشهدت خلال مسيرتك الطويلة استشهاد غالبية رفاق دربك. وشاهدت قبل رحيلك أحدث حلقات القتل والتدمير والتهجير وأكثرها همجية في التاريخ الإنساني قديمه وحديثه. والمنقولة وقائعها المتواصلة للشهر الحادي عشرعلى التوالي بالبث الحي صوتا وصورة، تتابعها البشرية في أقاصي المعمورة، وما تزال غالبيتها المستضعفة تعجز عن وقف فظائعها. والوقوف أمام تغول قلة نيولببرالية مجرمة تحكم سيطرتها على النظام الدولي، وتحتكر القوة والسلطة والثروة، وتهدد باقي العالم بالفناء.
يصعب رثاؤك أيها القائد المخلص العصي على الاستسلام. فالموت يطوق شعبك الفلسطيني بأطفاله ونسائه وشيبه وشبابه. والقتل والدمار يحصد الإنسان والمكان، ويمتد ليجرف في طريقه من نذرت حياتك واجتهدت لإحقاق حقوقهم في الحياة والحرية والعودة وتقرير المصير. وقضيت جل عمرك في النضال لبلوغها. ولم تترك منبرا إلا واعتليته لنقل المظلومية الفلسطينية للعالم بأسره. ولانتزاع اعتراف الدول بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني ومرتكزها الحرية والعودة وتقرير المصير على ارض وطنه. وبمنظمة التحريرالفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني.
كنت من الرعيل الأول لحركة التحريرالوطني الفلسطيني فتح التي فجرت الثورة الفلسطينية عام 1965. وانتخبت مرارا لعضوية لجنتها المركزية منذ مؤتمرها التأسيسي الأول في دمشق عام 1964 وحتى مؤتمرها الخامس في تونس عام 1988.
عارضت اتفاق أوسلو، ليس اعتراضا على مبدأ التسوية السياسية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. إذ كنت مؤيدا للبرنامج المرحلي عام 1974. ولإعلان الاستقلال عام 1988 الذي يعترف بالقرار 242 و338. غير أنك رأيت باتفاق أوسلو استعجالا لقطف ثمار الانتفاضة الفلسطينية الأولى قبل أن تنضج. وقفزا في المجهول تبدت مؤشراته في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، الذي عقدته الولايات المتحدة الأمريكية بعد تفردها بالقيادة العالمية. وأرادت به إخراج موضوع حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من مظلة الأمم المتحدة، ومرجعياتها وقراراتها الملزمة بحل الصراع. وفك الترابط بين المسار التفاوضي الفلسطيني والمسارات التفاوضية العربية وفتح مسارات تفاوضية ثنائيّة وجماعية عربية وإقليمية تجري بالتزامن والتوازي لترتيبات إقليمية، لا يعرقلها تعثر في أي من المسارات، وتؤسس لاستيلاد الشرق أوسط الجديد الجاري هندسته منذ أكثر من قرن.
واعتبرت محقا القفز نحو مفاوضات ثنائية فلسطينية – إسرائيلية مقامرة بالغة الخطورة، في ضوء تنامي اختلال موازين القوى العربية والإقليمة والدولية، بعد حرب العراق وانتهاء عصر الثنائية القطبية.
وحذرت من خطورة الإيقاع بمنظمة التحرير الفلسطينية (التي تحتكر شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني – بفعل التزامها بالبرنامج الوطني التحرري المعبر عن تطلعات كافة مكونات الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده. واستحقت التفويض المشروط بتمثيله عبر التضحيات الجسيمة التي تكبدتها الأجيال الفلسطينية المتعاقبة من أجل بلوغ حقوقه الثابتة في الحرية والعودة وتقرير المصير).
ونبهت الى خطورة استدراج المنظمةً للاعتراف بالعدو النقيض وتشريع تطبيع الوجود الصهيوني. قبل ضمان حقه في إقامة الدولة الفلسطينية على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
والتزمت معارضة لم تمتلك القدرة على التأثير والوقوف أمام التيار الجارف الداعم لأوسلو.
وحوصرت مع قلة قليلة من الرافضين للاتفاق في الدائرة السياسية بتونس. وأقصيت عن موقعك بعد انقلاب السلطة الفلسطينية الوليدة- المفترض أن تكون ذراعا تنفيذيا للمنظمة الأم في مناطق الحكم الذاتي المؤقت – واستيلائها على صلاحيات المنظمة التي تشكل الإطار المرجعي الأعلى للشعب الفلسطيني.
وأذكر حجم المرارة الكبير الذي رافقك بسبب الخذلان عند اضطرارك مرغما لمغادرة الجلسة الافتتاحية لاجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب بتاريخ 21/3/2005 في الجزائر، الذي استبق القمة العربية الأولى بعد اغتيال عرفات. لإصرار ناصر القدوة على المشاركة في الاجتماع بصفته وزيرا للخارجية.
ورفضت حضور المؤتمر السادس للحركة الذي تأخر انعقاده أكثر من عقدين، لإصرار القيادة المتنفذة على انعقاده في مناطق الحكم الذاتي حيث السيادة للاحتلال.
وقررت التوقف عن المناكفة إثر مشاكل صحية، وإغلاق الدائرة السياسية في تونس، والعودة إلى عمان عام 2015.
وها أنت تغادرنا، غير راغب في البقاء في عالم جائر. وقد أنهكتك الحياة والسياسة والمجازر وتفاقم معاناة شعبك، وبعد شهرين من رحيل شريكة عمرك ورفيقة دربك المناضلة أم اللطف / نبيلة النمر/.
تغمدك العلي الكريم بواسع رحمته وأكرم مثواك وجعل الجنه مستقرك ومأواك.