ناقشت في مقالة الأسبوع الماضي، وكان عنوانها «معركة ترامب الجديدة»، الأزمةَ بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته من ناحية والجامعات الأميركية من ناحية أخرى، والتي بلغت ذروتَها بالصدام المفتوح بين البيت الأبيض وجامعة هارفارد، التي اتهمها ترامب بأسوأ اتهامات يمكن توجيهها لجامعة، ناهيك بأن تكون ذات سمعة عالمية رفيعة، ليس فقط من المنظور السياسي باتهامها بمعاداة السامية، وإنما أيضاً من المنظور الأكاديمي بالطعن في كفاءة أعضاء هيئة تدريسها ومحتوى المقررات التي يدرِّسونها.
ولأن هارفارد رفضت الانصياع لمطالب ترامب التي يُعتبر الامتثال لها طعنةً في صميم استقلالها الأكاديمي، على عكس ما فعلته جامعة أخرى مثلًا كجامعة كولومبيا، التي استجابت لأوامره تفادياً لخسارة 400 مليون دولار من تمويلها، فإن ترامب فرض على هارفارد عقوباتٍ ماليةً قاسيةً تمثلت في تجميد 2.2 مليار دولار للجامعة مخصّصة لعقود أبحاث، فضلاً عن مزيد من التهديدات بحرمانها من الإعفاء الضريبي وقبول طلاب أجانب.
وقد أثارت هذه الأزمة استياءً واسعاً في أوساط النخبة الأميركية، تم التعبير عنه في شكل مظاهرات منددة بإجراءات ترامب، وتصريحات لمسؤولين كان من أهمهم حاكمة ولاية ماساتشوستس التي يوجد بها مقر الجامعة، والتي أشادت بهارفارد ورئيسها وطاقم تدريسها، لتصديهم لسياسات ترامب وقراراته في هذه الأزمة. كما أن شخصاً بشعبية الرئيس الأسبق باراك أوباما، وهو خريج جامعة هارفارد نفسها، دافع عن جامعته بالقول إنها قدمت مثالاً للجامعات الأخرى برفضها المحاولةَ غير الشرعية لقمع الحرية الأكاديمية.
وكان رئيس الجامعة نفسه قد صرّح بأنه لا ينبغي لأي حكومة، بغض النظر عن الحزب الذي تنتمي إليه، أن تملي على الجامعات الخاصة ما يمكن تدريسه.
ثم صعدت الجامعة موقفَها في 22 أبريل برفع دعوى قضائية ضد إدارة ترامب، وقد اتهمت في الدعوى المرفوعة أمام المحكمة الاتحادية في ماساتشوستس الحكومةَ الأميركية بشن هجوم واسع النطاق كوسيلة ضغط للسيطرة على عملية صنع القرار الأكاديمي في الجامعة. وسوف يكون لنتيجة النظر في هذه الدعوى مردود هائل على استقلال الجامعات الأميركية، التي تعتبر من أهم مقومات القوة الناعمة الأميركية، والتي لا تقل أهمية عن القوة الصلبة، بل قد تزيد عنها، وليس في هذا القول مبالغة، لأن القوة الصلبة لا تنجح في تحقيق الهدف من توظيفها في كثير من الأحيان، رغم تكلفتها الباهظة، بينما تكون القوة الناعمة أكثر نجاحاً بكثير في هذا الصدد. ذلك أن القيادات السياسية والاقتصادية والأكاديمية في العديد من بلدان العالم، والتي تكون قد أكملت تعليمها في الجامعات الأميركية، يكون لديها نوع من الإعجاب والإحساس بالجميل تجاه الدولة التي تلقت فيها تعليمها، وهو ما يسهل على أي إدارة أميركية التعامل مع هذه البلدان، لوجود قيادات فيها تفهم الولايات المتحدة ومجتمعها وسياستها. وبالمقابل تقف القوة الصلبة عاجزةً عن تحقيق أهدافها في كثير من الأحيان، رغم التفوق العسكري الأميركي الكبير. والأمثلة واضحة في فيتنام خلال ستينيات القرن الماضي، وفي أفغانستان خلال العقدين الأوليين من هذا القرن.
والواقع أن فقدان الجامعات الأميركية استقلالَها يهدد بتقويض واحد من أهم مقومات القوة الناعمة الأميركية، وهو عنصر لا يقتصر عائده على المساهمة في التكوين العلمي لدارسين يُقدر لهم أن يلعبوا أدواراً قيادية في بلدانهم، وإنما يكون له كذلك عائده المادي الواضح.
*أستاذ العلوم السياسية – جامعة القاهرة
عن الاتحاد الظبيانية