مع كل مناسبة وحديث عن القضية الكردية، أجد نفسي في سجال عنيف لا أعرف سببه؛ أجدني في مرمى الهجوم وأحاول الدفاع عنها، وكأن الحديث عن القضية الكردية من المحرمات. هناك تشويه كبير ومغالطات حول هذه القضية رغم توفر فضاء واسع من المعلومات المتاحة، وتقارب الناس فيما بينها وتحول هذا العالم إلى قرية صغيرة، ليس كما كان في السابق عندما كانت هناك عزلة مجتمعية تفرض نفسها بسبب انعدام التواصل.
شيطنة تفوق الخيال
ولكن رغم سهولة الوصول إلى المعلومة، أرى أن المعلومات حول القضية الكردية لا تزال قليلة، وهناك شرائح كثيرة في المجتمع لا يعرف عنها، ومع مرور الزمن وصلت إلى قناعة تامة وإلى الأسباب التي تجعل الحديث عن الكرد وقضيتهم يثير التحفظات والجدل. حتى أن البعض يستنكر على الكرد بتسمية معاناتهم “القضية” باعتبارها مسمى كبير، ويرى جمهور واسع أن الكرد يبالغون في مظلوميتهم، وأصبحت معتاداً على هذا السجال وصرت أنأى بنفسي عن خوض هذه السجالات العقيمة.
وسبب هذه الفكرة شقان.
الأول: أن الأنظمة الاستبدادية، وعلى رأسها حزب البعث، قد شوهت القضية الكردية والكرد أنفسهم لدى الجمهور العربي وشيطنتهم حتى أصبحوا ملازمين للكرد على أنهم خونة. وكم وجه لي مثل هذه الاتهامات، وصل بالبعض أنهم حملوا الكرد وزر غزو الولايات المتحدة للعراق وإسقاط نظام صدام حسين. بل وصل الأمر في سجال بيني وبين أحد يساري الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أثناء تواجدي بمكتبة في الأردن، حول الثورة السورية، باعتبار الجبهة ترى في الثورة السورية مؤامرة صهيوأميركية، وقد أقسم في معرض الحديث أنه شاهد بأم عينه الكرد وهم يرفعون صور شارون – رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق – في العاصمة دمشق عام 2004 أثناء الانتفاضة الكردية. لقد وصل أمر شيطنة الكرد إلى حد التمادي في الخيال، وهنا نرى أن الأنظمة الاستبدادية، وتحديداً حزب البعث، قد نجح في شيطنة القضية الكردية والكرد أنفسهم.
الثاني: هو فشل الأحزاب الكردية بكل خلفياتهم وأيديولوجياتهم في التعريف بالقضية الكردية ومآلاتها وأسبابها، وكل التفاصيل. كيف لا وهذه الأحزاب لليوم غائبة عن الشارع نفسه، وكل همهم كان ولا زال البحث عن مصالحهم الخاصة فقط. ولكن ورغم كل ذلك وبعد كل هذه السنوات والعقود، وتحديداً بعد 14 عاماً من الثورة السورية المجيدة التي كشفت وأوضحت كل شيء، ترك لي أحدهم تعليقاً استفزني لدرجة أنه دفعني لكتابة هذا المقال:
“ما الذي ينقصكم في سوريا حتى تقولوا أن لديكم قضية في سوريا؟ ما هي حقوقكم؟!” وكان رد فعلي حقاً بعد كل هذه المآسي والاضطهاد الطويل، يسأل أحدهم هذا السؤال، وكم لعنت الأحزاب الكردية لأنها أحد أسباب مأساتنا.
ولكون القضية الكردية وتحديداً في سوريا قد تعرضت إلى تشويه إعلامي ممنهج، سأوضح بعض النقاط الأكثر جدلية ونظرة حول الاضطهاد والمأساة الجماعية ولماذا هناك قضية كردية في سوريا. لأننا اليوم كسوريين نقف أمام التاريخ من أوسع أبوابه لكتابة فصل هو الأهم لكل السوريين. ويقع على عاتق الجميع بناء هذا الوطن وضمد جراحه، وننجو به، ونزيل عنه غباراً قد تراكم منذ عام 1963 منذ انقلاب حزب البعث وتسلطهم على الوطن.
بعض معاناة الكرد السوريين
إذا ما تحدثنا عن المعاناة، فالكرد هم توأمها، وتاريخهم مليء بالمآسي، وحينما نتحدث عن الكرد السوريين فإن أبشع ما تعرضوا له هو مشروع “الحزام العربي”، وهو خطة سياسية واجتماعية نفذتها سلطات البعث. لعل الفكرة قد ولدت في العام 1958 أثناء الوحدة بين سوريا ومصر التي عرفت بالجمهورية العربية المتحدة برئاسة جمال عبد الناصر، إذ قام الأخير بإلغاء التعددية الحزبية وأسس “الاتحاد العربي”. وتبع هذا القرار مأساة كبيرة بحجم جريمة وقعت بحق الكرد في فترة الانفصال. إذ قامت الحكومة وبموجب المرسوم التشريعي رقم 93 لعام 1962، بإجراء إحصاء سكاني استثنائي في محافظة الحسكة في 5 تشرين الأول/أكتوبر 1962، كان إحصاءً عشوائيًا ومختصرًا على محافظة واحدة ولم يكن ضمن الإجراءات المعهودة. ونتيجة لهذا الإحصاء، تم تجريد 120 ألف كردي من الجنسية السورية، وتم تصنيفهم إلى صنفين: الأول أجانب، وهم مسجلون كأجانب دون حقوق المواطنة، والثاني مكتومي القيد، ولم يسجلوا على الإطلاق، ولم يتم الاعتراف بهم في أي سجلات رسمية. تحول حياتهم إلى جحيم؛ عاشوا بيننا بشراً من لحم ودم، ولكن إذا قتل أو اختفى أحد منهم فلن يتم السؤال عنه لأنه ليس مسجلاً على الإطلاق. وأتذكر ذاك الطالب في صفي السادس الابتدائي “جفان” في مدرسة حامد محفوظ بالحسكة عام 2001 إذ قال له أستاذ اللغة العربية، وهو من الأجانب كما باتوا يعرفون: “لماذا تتعب نفسك بالدراسة؟ اترك الدراسة وتعلم أي مصلحة مهنية ستفيدك في مستقبلك أكثر من الدراسة”. نعم، هذه هي حياتهم. أقصاها كان الثانوية العامة “بكالوريا”. أما مكتومي القيد فلم يكن لهم حتى حق الدراسة.
وبعد هذه الجريمة وُلد مشروع الحزام العربي في العام 1963، وكان مهندسه الضابط محمد طلب هلال، رئيس شعبة الأمن السياسي في الحسكة. تضمن المشروع تهجير الكرد من مناطقهم، وتحديدًا القرى الحدودية، منع التعليم باللغة الكردية، حظر الأنشطة السياسية والثقافية، توطين عشائر عربية في المناطق ذات الغالبية الكردية. وهو ما عرف لاحقاً بقضية “عرب الغمر” الذين غمرت أراضيهم في الرقة وريفها، وتم توطينهم في القرى الكردية بعد تهجير أهلها، ومنع تسمية المواليد الجدد بالأسماء الكردية. وأنا من الناس الذين عرفت بعد زمن بعيد أن أسماء أخوالي وخالاتي في النفوس ليست الأسماء التي أناديهم بها وكان هذا سيسبب لي مشكلة وقتها.
لقد حُرم الكرد من لغتهم، وها أنا وجيلي وجيل والدي وجدي لا نعرف القراءة والكتابة بلغتنا الأم. ومن أمسك بكتاب باللغة الكردية كان يُحوّل إلى محكمة أمن الدولة. لم يُنفذ مشروع الحزام العربي دفعة واحدة، بل على سنوات عدة. تم تنفيذ الجزء الأكبر منه في عهد حافظ الأسد بين عامي 1974 و1976. من هذه المشاريع كان توطين عرب الغمر في الشريط الحدودي ومناطق ذات غالبية كردية، وتعريب أسماء المناطق الكردية، وتحديداً القرى والنواحي، حيث باتت مدينة “ديرك إلى مالكية” و”سري كانية إلى رأس العين” و”كركي لكي إلى معبدة”، إلخ.
لقد كان هذا المشروع أحد أكبر مآسي الكرد في سوريا وجرحاً ما زلنا ننتظر أن نتعافى منه. إضافة إلى ذلك، لقد عانى الكرد من العنصرية المقيتة والتمييز البشع في كل دوائر الدولة، وروج النظام البعثي القميء نظرة دونية تجاه الكرد حتى بات معتقداً أن الكردي شخص جاهل أمي.
أما التهميش للمناطق الكردية فحدث ولا حرج. المنطقة التي تعتبر السلة الغذائية لسوريا كلها إلى جانب النفط والغاز كانت تعيش ضمن الحد الأدنى من الموت. لم يبقَ بيت إلا وفيه شخص قد سافر للعمل إما داخليًا في محافظات مثل حلب ودمشق ودرعا، أو خارجياً إلى لبنان الوجهة الأبرز، أو إلى أوروبا. سلك الكرد هذا الطريق منذ زمن بعيد، قبل ثورة 2011. من تعمق في الغناء الكردي، وتحديدًا المواويل، سيجد نبرة الحزن وأغاني عن الغربة، لأن هذا المصير دخل كل بيت ولم يسلم منه أحد. كما أن البنية التحتية كانت منهارة وخدماتها في حدود الدنيا. أكثر من نهب المحافظة وتعمد في إغراقها بالفساد والتهميش كان المحافظ مصطفى ميرو منذ 1986 إلى 1993، الذي تم مكافأته فيما بعد ليصبح أول رئيس للوزراء في عهد المخلوع بشار الأسد. ومع كل هذا، كانت الحالة الأمنية والقبضة الفولاذية هي الأكثر شراسة وقذارة في المناطق الكردية مقارنة بباقي المحافظات. كان جحيماً لا يمكن وصفه أو اختزاله في مقال.
موقف الكرد من الثورة السورية
في السرد السابق، وبعدما أوضحت جزءاً بسيطاً من معاناة الكرد والحالة الأمنية الأكثر بشاعة التي ازدادت بعد انتفاضة 2004، التي هزت النظام بشكل كبير، وزادت من قبضته الأمنية. كانت مدينة عامودا في محافظة الحسكة هي خامس نقطة تظاهر في الثورة السورية 2011. بل إن لافتات مدينة عامودا إلى جانب لافتات كفرنبل في محافظة إدلب كانت من الأكثر انتشاراً وتأثيراً وجمالية في الثورة السورية. لكن الاتفاقيات السياسية ألقت ظلالها على المنطقة الكردية بشكل كبير، بعدما اجتاحت المظاهرات في القامشلي والحسكة وكوباني (عين العرب) وعفرين، واستطاع النظام ومن خلال حزب الاتحاد الديمقراطي تحييد المنطقة الكردية بعد عام 2013، بعد قتل واعتقال وملاحقة النشطاء الكرد، والذين غادر الجزء الأكثر تأثيراً منهم سوريا، حتى تفرد الحزب بالمنطقة بشكل مطلق.
أكثر المغالطات بحق الكرد اليوم لصق تهمة الانفصال بهم في كل حديث. وكوني عملت سابقاً مع كيانات سياسية كردية عملت داخل جسم المعارضة كمجلس الوطني السوري، فإن الكرد لم يطالبوا يوماً بالانفصال، وحتى مع كل خلافاتنا مع حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية، فإنهم لم يسعوا يوماً للانفصال، بل واستغرب كيف لعاقل أن يفكر بذلك، وكيف من الممكن تحقيق ذلك؟ فهو مشروع ميت قبل أن يولد جغرافياً وديمغرافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. بل كان أكبر مطلب كردي هو الاعتراف الدستوري بالكرد كثاني أكبر قومية في البلاد، إضافة إلى شكل نظام الحكم وما شابه.
أهم رسالة قد أوجهها اليوم لكل من يقرأ هذا المقال من السوريين غير الكرد: لا تختصروا تاريخ ونضال ومعاناة الكرد بحزبٍ أو أي كيان. الكرد هم أكبر وأنقى من أي مشروع أو حزب سياسي. هم بالدرجة الأولى ضحايا أحزابهم بمختلف خلفياتهم وتوجهاتهم، وضحايا المشاريع الدولية. الكردي في سوريا يشعر بأن العربي السوري أقرب إليه من الكردي في العراق أو تركيا أو إيران. والتجربة أثبتت ذلك. ونحن اليوم كشعب سوري بحاجة إلى أن نسمع من بعضنا البعض، لا عن بعضنا.
عن – العربي القديم