بين الآمال والتطلعات، وبين المخاوف والاهتمامات، تترقب الكويت النهوض من حال الجمود وتتطلع إلى تجفيف مستنقعات الفساد وعودة للحياة الدستورية المعدلة التي يمكن أن تخلق حالاً ديناميكية للعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من جهة، وتبتدع آلة شعبية فعالة تراقب أداء الحكومات وتطهر المؤسسة البرلمانية من الانتهازية والنفعية وقوى التعصب بكل أشكاله.
لعل من الموضوعية والعدالة أن يعرف القارئ الكريم لهذه السطور موقف كاتبها من مجلس الأمة منذ عام 2012، فهو مواطن كويتي أعلن أن صدور مرسوم الصوت الواحد في الانتخابات الكويتية تلك السنة لم يكن دستورياً، وأنه تجاوز على المادة الـ (79) من الدستور، والتي تنص على أنه “لا يصدر قانون إلا إذا أصدره مجلس الأمة وأقره الأمير”.
وعليه فقد قاطعت كل الانتخابات التي جرت منذ صدور ذلك المرسوم ولم أشارك فيها، ولم يكن موقفي هذا متفرداً فقد تشاركت مع كل القوى والشخصيات الكويتية التي تؤمن بالديمقراطية ودولة الدستور، وأعلنت مقاطعة انتخابات مجلس الأمة منذ ذلك الحين وحتى آخر انتخابات جرت في الرابع من أبريل (نيسان) الماضي، لأنه مجلس “بو صوت”، هكذا سماه المقاطعون، وهو مجلس غير شرعي ولا يمثل الشعب الكويتي.
وكانت جميع القوى والشخصيات السياسية الوطنية قد التزمت بمقاطعة الانتخابات لكنها بدأت بالتراجع عن موقفها واحدة تلو الأخرى، بعد أن أقسم بعضها أغلظ الإيمان ألا يشارك في انتخابات الصوت الواحد غير الدستورية، ولعل المجلس الذي انتخب الشهر الماضي يحوي عناصر معظمها كانت تقاطع الانتخابات وتعلن عدم شرعيتها ودستوريتها، وعلى رأسهم زعيم المقاطعة السيد أحمد السعدون، الذي لم يبرر قراره ولم يجب من سأله عن سبب تراجعه عن موقفه بمقاطعة الانتخابات حتى الآن.
تسبب الصوت الواحد في تعميق الشروخ المجتمعية من طائفية وفئوية وقبلية داخل المجتمع الكويتي، في وقت هم أحوج ما يكونون إلى وحدتهم الوطنية، وأخرجت انتخابات الصوت الواحد نماذج غير مسبوقة من نواب دخل بعضهم البرلمان “حفاة عراة” فأصبحوا من أصحاب الملايين، وتحول البرلمان لغالبيتهم إلى بوابة للثراء غير المشروع، وأسهموا مساهمة مدمرة في الفساد الإداري والتعيينات “البراشوتية” في مناصب قيادية مهمة في البلاد.
وساد البلاد هرج ومرج ولغة شاذة داخل البرلمان والحملات الانتخابية من معظم النواب والمرشحين، بل تطورت بعض المشادات الكلامية إلى تراشق بالأحذية داخل البرلمان، وتحولت الحملات الانتخابية إلى مزادات كلامية واستنهاضات للعصبية والطائفية، وهيجان صوتي لشحن الناخبين للحصول على أصواتهم، من دون أن يكون فيي فحواها مادة برامجية أو نظرة رجال دولة تشرّع للناس بما يضمن حقوقهم ويدافع عن حرياتهم وأموالهم العامة، كما ينص القسم الدستوري، بل على العكس تحول البرلمان إلى أداة قمع لحريات الناس العامة والخاصة، فسنّت قوانين تحد من حريات التعبير والنشر والتفكير وتدخل في أدق دقائق الحياة الخاصة للناس، والتي يفترض أنها حريات من ثوابت الدستور.
وترافق ذلك مع انهيار شامل للخدمات على مستوى الشوارع والطرق وانتشار الرشوة وفساد التعليم والغش الأكاديمي والشهادات المزورة بل وحتى الجنسيات المزورة، وجمود في ملء الشواغر القيادية في البلاد، وصلت حد خلو الجامعة الحكومية الأقدم وشبه الوحيدة من مدير لها بالأصالة منذ أعوام.
ووسط هذه التراجعات تدخل أمير البلاد الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح مساء الجمعة الماضي، فأصدر أمراً بحل البرلمان وتعليق المواد المتعلقة بمجلس الأمة حصراً، ومراجعة المسيرة الديمقراطية ودرسها من أجل تصحيحها وتعديل الدستور الذي مضى على صدوره أكثر من 62 عاماً وهو جامد من دون تعديل، وهو أمر منطقي، “فكيف يجمد تعديل الدستور وهو يسمح بإعادة النظر بأحكامه؟”، كما ورد في خطاب الأمير.
ولم يشمل خطاب الأمير تعليقاً لمواد الدستور الأخرى، وهو أمر جيد يسمح بحرية التعبير وانتقاد الأداء الحكومي وفق المواد الدستورية التي تسمح بذلك، كما أعلن الأمير أن الحل والتعليق ووقف بعض مواد الدستور هو لمدة لا تزيد على أربع سنوات، مما يعني أنها قد تمتد أشهراً إذا ما انتهت الإجراءات التي “يتم خلالها درس جميع جوانب المسيرة الديمقراطية، ورفع نتائج الدراسة والمراجعة لنا، لاتخاذ ما نراه مناسباً”، كما ورد في الخطاب.
ولقي قرار الحل والتعليق لمواد الدستور تأييداً شعبياً نسبياً مقارنة بما لقيه حل المجلس وتعليق البرلمان عام 1976 وعام 1986، ومن الموضوعية القول إنه يصعب قياس مدى المعارضة للحل والتعليق الحالي، لأن الاعتراض يدخل المعترض في حكم مخالفة القانون بالتعدي على صلاحيات الأمير، لكن المعارضين اليوم لن يختلفوا عن معارضي الأمس كثيراً، فقد “لعلعوا” وأزبدوا وأرعدوا بالأمس القريب اعتراضاً ومقاطعة للصوت الواحد، ثم تراجعوا وتسابقوا على الانتخابات والمصالح الفردية والحزبية والفئوية ضاربين عرض الحائط بما تشدقوا به من مبادئ بالتمسك بالدستور والدفاع عنه، وأي إنسان يؤمن بالحرية والديمقراطية لا يمكن أن يدافع عن مؤسسة تحولت إلى منتج للفساد والقمع والمنفعة الشخصية والتغول على الحريات ومعاداتها.
ولم تكن الحكومات المتعاقبة بأفضل حال من البرلمان، فقد راوحت بين الضعف والفساد والخضوع والتنازل لبعض صلاحياتها للبرلمان، ووصل الأمر أن تعاونت السلطتان على الإضرار “بمصالح البلاد والعباد”، كما ورد في خطاب جلسة القسم الدستوري الذي أداه الأمير الشيخ مشعل في ديسمبر (كانون الأول) 2023.
الكرة في ملعب الحكومة الآن
تعيش الكويت اليوم حال ترقب مشوب بالأمل، وحالاً من الآمال المشوبة بالقلق، وينتظر الشارع الكويتي تساؤلات وتطلعات نحو التالي:
كيف سيكون أداء الحكومة الجديدة التي هي سلطة التشريع والتنفيذ في آن واحد ومن دون محاسبة برلمانية؟ وهل ستكون حكومة قوية وصلبة في محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين الذين لا يزالون يسرحون ويمرحون في البلاد؟ وهل ستكون حكومة شفافة في مناقصاتها ومشاريعها المنتظرة لإصلاح ما أفسدته الحقب والحكومات الماضية؟ وهل ستسمح لحرية الرأي وانتقاد أداءها وفقاً لمواد الدستور التي لم يطلها التعليق، أم إنها ستقمع كل من يحاول انتقادها وتكيف له التهم وتزجه في السجن عملاً بقوانين سنّها البرلمان؟ وهل ستُملأ الشواغر القيادية في البلاد وفق معيار الكفاءة والمهنية؟ وهل ستتحسن الخدمات العامة؟ وهل ستحسن من مستوى معيشة المواطنين وأصحاب الدخول المحدودة والمتقاعدين، ومراعاة الغلاء والتضخم والحد من الجشع وارتفاع الأسعار؟ وهل ستحل أزمة التركيبة السكانية؟ وهل ستطرح برنامجاً تعليمياً نهضوياً ينقذ التعليم ويستثمر في المواطن الكويتي المستقبلي؟ وهل ستكشف مزوري الجنسية ومن كان يقف وراءهم بالتزوير وتحاسبهم أياً كانوا؟ وهل ستطرح إستراتيجية تنموية تضمن الاستدامة وتنوع الاقتصاد؟ وهل تستعيد نشاط الدبلوماسية الكويتية التائهة في بحر الشرق الأوسط المتلاطم؟ وهل تستفيد من قواها الناعمة في تعزيز الأمن القومي والإستراتيجي للبلاد؟
التعديلات الدستورية المنتظرة
كيف ستكون دراسة مراجعة الدستور والتعديلات عليه؟ ومن سيقوم على تلك الدراسة؟ وما هي فلسفة تلك التعديلات؟ وهل ستجري الحكومة استفتاءات شعبية لكسب التأييد الشعبي لتلك التعديلات، بموجب المادة السادسة من الدستور التي تنص على أن “نظام الحكم في الكويت ديمقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعاً”، لتضفي شرعية على تلك التعديلات؟ وهل ستجري الحكومة حوارات موسعة مع قطاعات وفئات متخصصة ومتمرسة ومحايدة لمناقشة تلك التعديلات؟
ترقب وتفاؤل غير مفرط
بين الآمال والتطلعات وبين المخاوف والاهتمامات، تترقب الكويت النهوض من حال الجمود، وتتطلع لتجفيف مستنقعات الفساد وعودة الحياة الدستورية المعدلة التي يمكن أن تخلق حالاً ديناميكية للعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من جهة، وتبتدع آلة شعبية فعالة تراقب أداء الحكومات، وتطهر المؤسسة البرلمانية من الانتهازية والنفعية وقوى التعصب بكل أشكاله، حفظ الله الكويت وشعبها وأميرها من كل مكروه.
* نقلا عن “اندبندنت عربية”