بعدما أصدرت وزارة التربية قراراً بتبديل أسماء المدارس كما كانت في زمن الأسد، ومن بينها مدرسة أُطلق عليها اسم الكاتب الراحل سعدالله ونّوس، تدخَّلَ وزير الثقافة لدى وزير التربية للإبقاء على اسم المدرسة كما هو. قد يتفق أو يختلف بعض السوريين حول القيمة الإبداعية للراحل، وهذا ليس حال ملايين من السوريين يُرجَّح أنهم لا يعرفون عنه شيئاً، وقد يحتسبه البعض منهم على حكم الأسد ضمن تيار مُواتٍ يقوم على شيطنة تلك الفترة بأكملها.
مثال ونّوس تفصيل صغير جداً في سياق صارت له الصدارة بعد إسقاط الأسد، يمكن أن يُوضَع تحت عنوان: جاهلية ما قبل الثامن من ديسمبر/كانون الأول. العنوان المقترح يتضمن الشيطنة المطلقة لعقود من حكم الأسد والبعث، والتمجيد المطلق للعهد الجديد. في الجذور، يعود نمط التفكير إلى التبسيط الشعبوي الذي لا يفقه أصحابه معنى الجاهلية التي كانت قبل الإسلام، وفي المخيّلة أنها كانت تحتوي على كل الشرور والموبقات، بل تحتوي حصراً على الشرور والموبقات. على ذلك يمكن للمخيّلة ابتداع الكثير من الموبقات ورميها على الجاهلية، ويمكن لأية كذبة أن تلاقي الاستحسان والرواج بلا تدقيق.
القياس على المثال الديني غير مرتبط بالسلطة الحالية وحدها، فالبعث انقلب على ما سمّاه عهد الإقطاع والبرجوازية، وقدّم انقلابه على أنه ثورة على “جاهلية العهد السابق” وانتقالٌ إلى الطريق القويم. حافظ الأسد أيضاً قدّم انقلابه على زملائه بوصفهم منحرفين عن الطريق القويم، ثم بأثر رجعي سعى حتى إلى وصم مؤسس البعث ميشيل عفلق بالرجعية. ومع ترسيخ سلطته، بذل الأسد أقصى جهده لتصوير المرحلة السابقة بأكملها كأنها جاهلية، ما اقتضى تدمير معظم الوثائق السورية لمرحلة ما بعد الاستقلال، إما عمداً أو بالإهمال، من أجل كتابة التاريخ كما يروق له.
في حالة الأسدين، لا تحتاج شيطنتهما أيَّ تلفيق لإثباتها، فهناك أمثلة مثبتة وفاقعة تغْني عن ذلك؛ تكفي مثلاً مجزرة حماة التي ارتكبها الأب، والمجازر التي كانت أكثر من أن تُحصى بتوقيع الابن. ولا يضيف جديداً القول إنهما كانا على رأس سلطة مخابراتية وعسكرية في المقام الأول، الأمر الذي لا يقتضي أيضاً المبالغات لأنه في حدّ ذاته شديد الوحشية.
على سبيل المثال، لا يضيف شيئاً (بهدف شيطنة الأسد) القولُ: الله لا يوفقه كان حارمنا من صلاة الفجر. وهو قول شاع بعد سقوط الأسد، وانتشار تسجيلات لصلوات فجر جماعية خارج المساجد. إذ يعلم الجميع، باستثناء مروِّجي هذا النوع من الأقوال، أن مكبّرات الصوت كانت تنقل أذان الفجر في جميع أنحاء البلاد، وأن من يشاء كان يستطيع الذهاب لأداء صلاة الفجر في الجامع، من دون أن يكون هناك من يمنعه.
المصيبة ليست في اختلاق ما لم يكن سائداً حقاً كنهج، بل في أن هذا النوع من الشيطنة يمتد ليطاول حقبة بأكملها، وبكل ما أنجزه السوريون خلال تلك الحقبة؛ سواءً كانوا مضطرين للإنجاز تحت إشراف السلطة أو يملكون مساحة خاصة للإنجاز. والواقع أن حكماً امتد لنصف قرن لم يكن ليستمر لو كان مجزرة بالمطلق، وعلى كافة المستويات.
يمكن مثلاً الحديث عن نواقص وعيوب التعليم، وهذا لا يعني أن العملية التعليمية برمّتها كانت شديدة الرداءة، وأن الكادر التعليمي بأكمله كان قليل الكفاءة ولا يتحلّى بالمسؤولية. الأمر ذاته ينسحب على القطاع الطبي، فتردّي أحواله لم يمنع وجود نسبة معتبرة من الأطباء المرموقين علمياً وعلى صعيد أخلاق المهنة. قائمة الأمثلة تطول، ولا فضل لسلطة الأسد فيها، بل تُدان لأنها لم تقم بمسؤولياتها على النحو الأنسب للموارد البشرية والطبيعية.
ولئن كان يُعزى عن حق إلى سلطة الأسد تخريبها للنسيج المجتمعي السوري، ووقوفها تالياً على الضد من الاجتماع الوطني، فما يصحّ على السلطة لا يصحّ تلقائياً على المجتمعات السورية. المتغيرات كانت كبيرة جداً خلال نصف قرن، ومن ضمنها الحراك الاجتماعي الذي يحدث بحكم الزمن والعصر، ما أدى إلى انفتاح غير مسبوق بين السوريين، فلم يكونوا طوال الوقت طوائف متحاربة، أو تعدّ نفسها للحرب.
في واحد من جوانبه، تقطيعُ التاريخ السوري إلى جاهليات يعني أن البلد يبدأ في كل مرة من الصفر، أو ما دونه. ليس من تاريخ متصل، عندما تحدث القطيعة المطلقة مع الماضي هكذا. ولا وطن أيضاً، لأن البدء في كل مرة من جديد يجعل فكرة الوطن غير ناجزة وغير مستقرة. وتحت ستار كاذب من النقد، يكون نموذج صنع الجاهلية مانعاً للنقد، لأن تلفيق الماضي كل مرة يحجب الموضوعية، وإن استند التلفيق إلى قدر كبير من وقائع مشابهة.
القديم (الذي في الجاهلية) يصبح مذموماً بطبيعة الحال، ما يمنح الجديد (أيّاً كان) ميزةً؛ فقط لبراءته من القديم. والتقسيم بين (أهل الثورة) و(أهل الجاهلية) لا يتوقف عند واقع عيش ما يزيد عن نصف السوريين تحت سيطرة الأسد حتى سقوطه، أي أنهم من أهل الجاهلية! هذا ينسحب حتى على التعاطي مع الكفاءات في أي حقل مهني، فالمطلوب اليوم إحلال كوادر جديدة مكان القديمة، وميزة الجديدة أنها كانت (ثورية). وإذا كان مذموماً في الماضي عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب فالتعريف في الحاضر يصبح مختلفاً كلياً، إذ يُنحّى معيار الكفاءة الذي قام عليه الانتقاد السابق.
على هذا من الجليّ أنه لن تكون هناك عملية مراجعة موضوعية ونقدية شاملة لحقبة الأسد، أو لتاريخ ما بعد الاستقلال كله، بهدف الكشف عن سلبياته حقاً، وبهدف الوصول إلى تصور وطني مشترك عن الماضي. الشر المطلق لا يحتاج بطبيعته تفكيكاً أو تشريحاً، وهذا هو حال اصطناع الجاهلية. وغياب النقد، لصالح شيطنة ما سبق، يعني عدم تعريف الأسدية على نحو واضح معرفياً وقانونياً من أجل تجريمها على هذين الصعيدين، ويعني أيضاً عدم الشروع في عدالة انتقالية، ولو في الحدود الدنيا، لأن العدالة الانتقالية لا تتم بلا مراجعة موضوعية للمرحلة السابقة، وتحمُّل المسؤوليات عنها، من دون تضخيم هنا وتنصُّل هناك.
لكن آثار اصطناع الجاهلية تتجاوز الماضي إلى الحاضر، فبقدْر ما يكون الماضي مذموماً يصير الحاضر معصوماً، ويُكفَّر من ينتقده، ومن المرجَّح أن هذا هو بيت القصيد، سواء أتى عن وعي أو دونه. هو موسم التبرؤ من الحقبة الفائتة، ينخرط فيه الطامعون قبل الخائفين. هكذا ينشغل هؤلاء بإبراز مسيرة بالدراجات في دمشق قبل أيام، وكأنها حدث استثنائي، ويحضر على سبيل الهزل هذه المرة القولُ: الله لا يوفقه…كان حارمنا نركب بسكليتات.